ثقافة وفن

من حسن السلوك إلى حسن المواطنة … العدالة الآنية عبر القرار الشعبي أو الحكومي  .. الفرد ذكي ولكن المجتمعات ليست بالضرورة كذلك!

| رشاد أنور كامل

من أهم الاعتراضات التي سمعتها من خبراء وأصدقاء أثناء تحضيري لهذا المقال لدى عرض الموضوع عليهم أن هذا الطرح خطير لأنه يعتبر من أنواع العدالة الآنية الممارسة عبر القرار الشعبي أو الحكومي لا فرق كبير بنتائجهما، وهذا النوع من العدالة غالباً ما يساء استخدامه فوراً لأن القاعدة التي تعلمها البشر هي أن الفرد ذكي لكن المجتمعات ليست بالضرورة كذلك، والمجتمعات تميل للسكون، وإبقاء المتعارف عليه، والنظر بحذر شديد لأي تغيير، إن لم يكن ممانعته، والحكومات لا تختلف بذلك.
فالعدالة الآنية قد تقصي أفراداً في المجتمع فقط لأنهم مختلفون، لا يشبهون مجتمعهم، أو يحاولون تغييره. والعدالة الآنية تطرح سؤالاً مهماً «لماذا إذا نحتاج إلى قوانين ودساتير تحمي الفرد وخصوصيته وحقه في أن يكون مختلفاً وصياغة قوانين تسعى لتحقيق ذلك؟».
ووجهة نظرهم، أن هذا النوع من العدالة الآنية الرقمية تتعارض حتماً مع الشخص المختلف، وليس بالضرورة من يشبه كل الناس هو الجيد، فالكثير من المتفردين والأشخاص الذين غيروا العالم لم يكونوا على مسطرة مجتمعاتهم (حتى الأنبياء كان يتم اتهامهم بأنهم مخالفون لمجتمعاتهم في زمانهم).
ومن الأمثلة الحديثة الأكثر شهرة لأشخاص لا ينطبق عليهم معيار مسطرة مجتمعاتهم هو ستيف جوبز مؤسس شركة آبل الشهيرة والذي بحلمه في تطويع الحواسب الكبيرة وتحويلها إلى ما يدعى الآن « الحواسب الشخصية» غير العالم، فهذا الشاب لمن يعرف سيرته الذاتية، مستهتر، ترك الجامعة، يتعاطى مخدرات متنوعة، غير نظيف، غير مهذب، بخيل، لا يؤمن بتوزيع قسم من ثروته إلى الأعمال الخيرية، وهو طفل بالأساس لأبوين غير متزوجين رسمياً تم التخلي عنه، ومع ذلك هو ستيف جوبز الشهير والمحبوب الذي طور وجه التقانات بعدة مستويات وطور كل ما نعرفه عن تجهيزات الاستماع للموسيقا، وهو من أسس للهاتف الذكي… والكثير من الشركات الأخرى وخاصة في عالم سينما الأطفال، وهو من حقق المليارات من الأموال والمليارات من المعجبين حول العالم، وأصبح ملهماً للكثيرين من جيلنا (وأنا منهم). ومع ذلك اليوم هو فعلاً لا ينطبق على مسطرة الكثير من مجتمعات الأرض حتى المجتمع الأميركي التقليدي.
فإذا ماذا لو طبقت على ستيف جوبز معايير العدالة الآنية الرقمية التي تسعى إليها الصين مثلاً، لصنف على أنه من المنبوذين رقمياً ومجتمعياً، ولما تمكن حتى من الحصول على أي قرض أو تمويل.
ستيف جوبز أدرك ذلك وأدرك قيمة التفرد والاختلاف فعندما عاد إلى إدارة شركة آبل مرة أخرى في العام 1998 بعدما كان قد طرد منها قبل عشر سنوات بسبب تصرفاته غير المقبولة أو مفهومه لمجلس إدارة الشركة نفسها، عندما عاد إلى قيادة الدفة من جديد أنقذ الشركة من حافة الإفلاس عبر طرحه لرؤيته الجديدة والتي سماها «Think Different» أي فكر بشكل مختلف…. واعتبرها رسالة للمستقبل ولأجيال كاملة…. وأهم ما في رؤيته تلك «أن الأشخاص الخارجين عن المألوف ومن يحتوي عقلهم على كمٍ كافٍ من الجنون يجعلهم يعتقدون أنهم سيغيرون العالم، هم غالباً فعلاً من يقومون بذلك»..
واستجاب العالم آن ذاك لتلك الرسالة، لا بل أذهلته، وأعطى شركة آبل بناءً عليها فرصة للنهوض ثانية، لتثبت أن المختلف قد يكون جيداً، وهذا ما كان.
ومع ذلك آبل نفسها وبقيادة ستيف جوبز هي من الشركات التي ساهمت بتقديم معلومات مستخدمي تجهيزاتها وتطبيقاتها إلى نظام «PRISM» لاستخدامها استخباراتياً، وهذه مفارقة ستترك للتاريخ ليبت فيها.

كيف ستبنى خوازمية حسن المواطنة؟
من الأسئلة المهمة التي ستطرح في تجربة الصين القادمة والتي سريعاً سنراها معممة على باقي الدول، هي الآليات التي ستبنى بها خوارزميات نظام الرصيد الاجتماعي (الخوارزمية هي العلاقات المنطقية التي يتم وفقها الوصول إلى نتائج أو حلول أو أحكام)، في حالة الصين حسب ما تسرب من معلومات سرية حول بناء الخوارزمية أنهم اعتمدوا إحدى أهم الشركات المصنعة للألعاب الإستراتيجية لإنشاء تلك الخوارزمية وبنائها وترميمها آليا أو بتدخل بشري مع تراكم خبرات الاستخدام.
ومن المتوقع أن تطرح مفاهيم جديدة مثل «الخوارزميات الذكية، أو القوانين الأساسية لبناء خوارزميات شفافة تشاركية يعمل على تشذيبها ملايين المستخدمين الفاعلين عبر تصويب إلكتروني أشبه بالانتخابات لكن عبر وسائل رقمية».
ولكن رغم أنه من الممكن أن نعهد بناء خوارزميات (نظام المرتبة الاجتماعية) إلى الديمقراطيات الرقمية (أي عملياً اشتراك ملايين البشر في التصويت على صوابية وآلية عمل الخوارزميات الخاصة بمنظومة المرتبة الاجتماعية) ولكن هذا لن يضمن أبداً صوابية خوارزميات (نظام المرتبة الاجتماعية) لأننا أساساً نعاني من الديمقراطيات التقليدية لأنها تركز في خطابها الشعبوي على القواسم المشتركة الأدنى للشعوب، ولنفسر الجملة الأخيرة يجب أن نعود إلى البيانات الانتخابية وخطط المرشحين لمعظم النظم الديمقراطية وأشباهها والتي غالبا سنجد فيها أموراً عامة وبسيطة ووعوداً قابلة للتنفيذ، وغالباً ما تبتعد عن الأمور الإشكالية للمجتمعات، وخاصة في قضايا التغيير الاجتماعي، وإعادة هندسة تلك المجتمعات وبنيانها وما يجب أن تقبله من حداثة مقابل ما تتمسك به من عادات وقيم اعتادت عليها ربما لعقود طويلة.
فهل ستتمكن الديقراطية الرقمية من التغلب على نقطة الضعف هذه، شخصياً لا أظن.
وإن لم تنبر النخب التشريعية والسياسية في الدفاع عن حق المختلف والجديد والمبدع ووضعها كقيم أساسية في تقييم المجتمعات والأفراد فسنواجه فعلاً تعسفاً رقمياً لامثيل له في تاريخ البشرية، وبرأيي يجب أن تعتمد خوارزميات تتمحور حول معايير إنسانية عامة، لا خاصة، ولا سياسية، فلا يمكن مثلاً إدخال مدى التزام المواطن بالمعتقدات الدينية بأنواعها، ولا الأحزاب ولا الأفكار السياسية، ولا القيادات، كمعايير، لأنه في حال اعتمادها تحولت إلى أداة لقمع الحريات، ويجب النظر إلى عملية تطور المعايير في الخوارزمية على أنها شيء طبيعي لا ينفي ماقبلها من معايير رغم أنه من الممكن أن يطويها، ولكن لا يمحو نتائجها السابقة، فمن كان جيداً في معايير سابقة طواها الزمن يجب أن يحترم ويورث نتائجه الإيجابية السابقة، ما يرفع الثقة بأن لا إقصاء في مكارم الأخلاق والمواطنة الفاعلة إنما تطوير دائم ومستمر.
ويبقى تعريف نظام الرصيد الاجتماعي أو منظومة المواطنة الفاعلة (Social Credit System – SCS) على أنه نظام سيساعد في رفع الثقة بين المواطن والمواطن، وبين الحكومة والمواطن، وبين الشركات والمواطن، وبين المواطن والحكومة، والمواطن والشركات، أي إنه نظام ثنائي الاتجاه، الحكومة بمؤسساتها سيتم تقييم ادائها، وكذلك الشركات بأنواعها، والكثير من الحكومات حول العالم تعتمد الآن على نظام تقييم أداء مؤسساتها فعلاً عبر أنظمة تفاعلية مع المستفيدين من خدماتها من المواطنين ومن قطاع الأعمال، وكذلك أصبح تقييم أداء الشركات ومنتجاتها من المستهلكين أموراً معروفة، لا بل يحميها القانون.
المدافعون عن نظام الرصيد الاجتماعي يعتقدون أن هذا النظام سيساعد على كشف الأشخاص ذوي النيات السيئة، ففرز المحتال ومنعه من تكرار عمليات التملص من الدفع أو حتى الاعتداء على أموال الآخرين، وحصر مرتكبي الجرائم والجنح وتعميمها على مستوى الدولة إن لم يكن لاحقاً عبر العالم سيمنع عملياً هذا الشخص من إمكانية إعادة ارتكاب أعماله نفسها في أماكن جديدة، عملياً هو سجل عدلي، مالي، أخلاقي، سيلاحق الشخص السيئ في كل مكان.
ولوحظ فعلاً في الصين التي أعلنت عن تجربتها أن الكثير من المتطوعين لاستخدام هذا النظام كانوا فخورين بعلاماتهم ضمن نظام الرصيد الاجتماعي (Social Credit System – SCS)، وغالباً ما يعرضونه على أصدقائهم وأسرهم بفخر، إضافة إلى أن عدد الأشخاص المنتسبين للنظام والذين يعرضون مرتبتهم ضمن هذه المنظومة على موقع باهي الصيني للزواج تتزايد يوماً بعد يوم ما يدل أن الناس الذين ليس لديهم مشاكل مالية أو قانونية أو مخالفات لا مانع لديهم من إظهار ذلك والتفاخر به وحتى الاستفادة منه.
إذا نحن ننظر إلى حدث تاريخي يجب ألا يؤخذ باستخفاف، إنه نظام سيؤثر في إعادة هندسة المجتمعات عبر منظومات رقمية تجمع الناس على الأشياء والقيم والأفعال المتعارف عليها أنها حميدة ضمن مجموعات، وهذه المجموعات ستكافأ بأشكال عديدة أهمها الثقة بها وبمستقبل التعامل معها.
وبعد نقاش كبير مع مجموعة من الأصدقاء والخبراء حول هذا الموضوع، تطرقوا فيه إلى الكثير من التعريفات، حول القانون، الحريات، العدالة، المساواة، أنواع السلطة، شعرت أن هذا الموضوع سيكون مثار جدل كبير بين المختصين بالعلوم الإنسانية والعلوم السياسية وسيشكل أرضية جديدة للتشريعات المستقبلية.
وفي المحصلة وجدت شخصياً أن نظام الرصيد الاجتماعي يشبه كل المنظومات التقييمية التي كانت تمارس في بلادنا على مستوى الحارات والقرى، والحكومات، هذه المنظومة تشبه منظومة شهادة حسن السلوك التي كانت تطلب عبر مختار الحارة من كل شاب يريد أن يتوظف أو ينتمي إلى الجيش أو الشرطة وحتى أن يعمل في معمل كبير.
فكان المختار لا يعطي ورقة حسن السلوك لأزعر أو لشخص مستهتر بالجوار وحرمة الجوار، أو من هو معروف عنه أنه خرج عن طوع أهل الحارة أو القرية، فكانت ورقة حسن السلوك إحدى الآليات التي تشاركت بها الدولة مع قيادات الحارات في ضبط سلوك المجتمع وتعزيز القيم الإيجابية.
وبالمقابل أيضاً كان لا يمكن لشاب أو فتاة أن يتزوجا إلا إذا تم سؤال أهل الحارة عنهما وعن عائلتيهما وسؤال شيخ الحارة وسؤال المختار والجيران والجارات والسمّان واللحام، ونحن عرفاً وديناً في بلاد الشام يجب أن نقول الجيد والسيئ عندما يسأل أحدنا عن شاب أو فتاة بقصد الزواج، فهنا ذكر الأشياء غير السارة عنهم أو عن أهلهم لا يعتبر عيباً أو استغابة وإنما يعد واجباً.
وأظن أن هذه العادة حافظت على تماسك قيمي وأخلاقي ولو شكلي ضمن أفراد الحارة فهناك الطيبون الأصلاء ولكن أيضاً هناك ممن لو تركتهم من دون منظومة ضابطة لتجاوزوا كل الحدود.
الصين بهذه التجربة «وهذا رأيي» ستدمج مابين فوران نجاحها الاقتصادي وارتفاع الثروات بين أيدي مواطنيها ومنظومة أخلاقية قيمية وطنية خاصة بالصين، فتعزز الجيد وتقلص وتحيط بالتجاوزات…. هل هناك نقاط غير واضحة في مدى التدخل السلبي في عملية تطور المجتمعات، أظن أنهم لن يخسروا كثيراً.
وعندما سألني إبني والأصدقاء والخبراء ممن شاركوا في كل هذه النقاشات والتي أسست لهذا المقال عن سبب قناعتي بنجاح هذه المنظومة، كان جوابي « حسن السلوك… تحوّل إلى حسن مواطنة، وهذه منظومة رغم ثغراتها سيدعمها كل من يؤمن فعلاً بالمجتمع وبالقيم والأخلاق والعمل الوطني، فقوتها تستمد من أنها تقدم منصة لكل الطيبين… تمكنهم من دعم كل ما هو جيد من حكومة، وقطاع خاص، وأفراد.. »…
ليأتي سؤال إبني الثاني لي: هل برأيك من الممكن قريباً أن ننتج خوارزمية «المواطنة السورية الفاعلة»؟
جاوبت: الخوارزمية الأخلاقية السورية معروفة…. السؤال الحقيقي كيف فقدناها… وكيف سنسترجعها؟.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن