جملة من التطورات المتسارعة التي شهدها الملف السوري خلال الأسابيع السابقة بوجهيها السياسي والعسكري، وعكست هذه التطورات مدى التجاذب والكباش القائم على حدة الصراع وخاصة بين القطبين الدوليين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية.
الوجه الأول لهذه التطورات السياسية كان من خلال عجز مجلس الأمن للتوصل إلى صيغة توافقية حول التوصل إلى مشروع قرار لتمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود، بعد انتهاء سريان مفعول القرار السابق لمجلس الأمن رقم 2672، وهو ما أعاد إلى الأذهان فترة الصراع السابقة التي شهدتها كل مراحل الأزمة السورية، من تباين في الأهداف والوسائل، ولاسيما من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي تصر على استخدام المنظمات الدولية لتحقيق مآربها من ناحية، ومسارعتها لاستباق أي حلول أو مسارات فاعلة لحل الأزمة السورية لا تتناسب مع توجهاتها.
فالمتابع للمشروعين اللذين قدما في جلسة مجلس الأمن حول هذه المسألة يلحظ ذلك من حيث:
أولاً- إصرار غربي على إطالة أمد الأزمة في سورية عبر تبنيه فترات زمنية طويلة تتعلق بإدخال المساعدات في ظل ممارسة هذا الغرب سياسة الحصار الاقتصادي التي تزيد من حاجة السوريين بمختلف مناطق وجودهم لهذه المساعدات.
ثانياً- التنصل من كل الالتزامات الأخلاقية والإنسانية، وهذا ما يبرز من خلال التمسك بإدخال المساعدات عبر خطوط الحدود، وعدم تطبيق البندين المتعلقين بتنفيذ مشاريع التعافي المبكر وإدخال المساعدات عبر خطوط التماس أي عبر الحكومة السورية، وهو ما يؤكد على ممارسة واشنطن كل الضغوط لعدم الاعتراف بشرعية هذه الحكومة.
ثالثاً- الاستمرار في تسييس ملف اللاجئين وإعاقة عودتهم إلى سورية، إذ لم ينص مشروع القرار الغربي على تقديم المساعدة لهم في إطار عودتهم لمناطقهم ومدنهم، ولكن تقديم الدعم لهم في الدول الموجودين بها، وهو ما يعكس التوجه الغربي حقيقة في استثمار هذا الملف لإطالة الأزمة السورية.
أما الوجه الآخر من التطورات فهو يتجلى بالتصعيد العسكري، ففي الوقت الذي كان الاهتمام يتوجه باتجاه مدينة إدلب، تسارعت وتيرة التطورات في المنطقة الشرقية من سورية، والتي كنا قد أشرنا لها في مقال نشر سابقاً بتاريخ 8/6/2023 بصحيفة «الوطن» بعنوان «الأزمة السورية وتعقيدات الحل السياسي»، من خلال سعي الولايات المتحدة الأميركية عبر إجراءات مختلفة لتكريس وجودها أولاً في المنطقة، وإفراغ أي مصالحة سورية-تركية من مضامينها، وتمثل هذا السعي الأميركي عبر الإجراءات التالية:
أولاً- مع نهاية عام 2022 وتحديداً في شهر تشرين الأول قامت القوات الأميركية بتغيير قيادة ما عرف بـ«جيش المغاوير» الرافضة للتنسيق والتعاون مع ميليشيات «قسد» وعينت قيادة جديدة لها تقبل بذلك، بقيادة محمد فريد القاسم، كما قامت بتغيير اسم الفصيل ليصبح «جيش سورية الحرة»، وتنشيط حراك هذا الفصيل في مناطق سيطرة «قسد» لاستقطاب العشائر العربية لصفوفه، بالتزامن مع إعادة تموضع ميليشيات «قسد» في خطوط المواجهة.
ثانياً- عززت قوات الاحتلال الأميركية من قواتها المتمركزة في دير الزور والحسكة والرقة، واستقدمت نظام راجمات «هيمارس»، فضلاً عن إرسالها لـ2500 جندي إضافي إلى سورية والعراق، وإعلان البنتاغون إرسال مقاتلات إضافية من طراز «إف35» و«إف16» وبارجة حربية إلى الشرق الأوسط بذريعة الدفاع عن المصالح الأميركية، بعد أكثر من احتكاك جوي حصل بين الطائرات الروسية والأميركية في الأجواء السورية.
وبذلك يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية بدأت بترجمة مشروعها العسكري الجديد القديم، المتمثل بدمج التنظيمات المسلحة وتداخلها على شكل حزام أمني وعسكري متصل من منطقة التنف وصولاً لبعض مناطق إدلب مروراً بشرق الفرات، بعد استقدامها قوات دعم مما يسمون مجموعة الصناديد إلى الحقول النفطية في شرق الفرات لحمايتها وخاصة حقلي كونيكو والعمر بريف ديرالزور، وطلبها من التنظيمات المسلحة في التنف الاستنفار في «المنطقة 55»، وسبق ذلك إعادة انتشار لميليشيات «قسد» على سبع نقاط مطلة على ضفاف الفرات.
التوجه الأميركي هذا ناجم عن إحدى الاحتمالات المتوقع أن تشهدها المنطقة الشمالية الشرقية من سورية والتي يمكن وضعها في السياقات التالية:
أولاً – السعي الأميركي لفرض حالة الاندماج بين التنظيمات المسلحة عبر تشكيل الحزام الأمني المتصل من التنف وصولاً لحدود إدلب، من خلال نشرها مخاوف قد تكون حقيقية أو مجرد شائعات في صفوف هذه التنظيمات لتنفيذ هذا الدمج بإشراف أميركي، في ظل المساعي الأخيرة لاستقدام تيار واسع من «هيئة تحرير الشام» أي «جبهة النصرة» سابقاً وضمه لهذا الحزام، والمقصود بالمخاوف التجهيز السوري بدعم من الحلفاء والأصدقاء لتحرير المنطقة أو تنشيط ودعم حركات المقاومة.
ثانياً – قد يكون هذا التحرك الأميركي ناجم عن معلومات استخباراتية في توجه الدولة السورية وحلفائها نحو تصعيد ميداني في منطقة شرق الفرات لدفع القوات الأميركية من الانسحاب أو عدم السماح لها من الاستفادة من حقول النفط في ظل زيادة تداعيات الحصار الاقتصادي على السوريين، وهذا الخيار متفق عليه حتى من قبل اللجنة الرباعية التي تضم سورية وروسيا وإيران وتركيا، وهو ما سربته صحف أميركية وفي مقدمتها «واشنطن بوست» و«فورين بوليسي» خلال الأشهر الثلاثة الماضية عن معلومات وصلت للقوات الأميركية عن توجه دمشق وحلفائها لاستهداف الوجود الأميركي شرق الفرات، الأمر الذي دفع أميركا لاستقدام أسلحة نوعية لمنطقة شرق الفرات، رافقها مناوشات جوية بين سلاحي الجو الروسي والسوري.
ثالثاً – السيناريو الثالث يتجلى في احتمال إقدام الولايات المتحدة الأميركية بتحريك هذه التنظيمات على عدة محاور بذريعة حماية مصالحها أو التصدي لمواجهة محتملة، وهذا السيناريو قد يكون بهدف عرقلة المسارات السياسية الخاصة في حل الأزمة السورية وقطع الطريق أمام المباحثات السورية- التركية، والسورية- العربية، أو بهدف انتقال الصراع الأميركي- الروسي إلى الجغرافيا السورية.
من دون أدنى شك، الفترة المقبلة ستكون «حبلى» بالأحداث والتطورات الساخنة ولن تكون كسابقاتها، وخاصة في ظل اندفاع إدارة الولايات المتحدة نحو تحقيق إنجاز خارجي قبل نهاية العام الحالي وقبل بدء موسم الانتخابات الرئاسية المقبلة.