قضايا وآراء

الصين وتلمس أحجار النهر!

| د. بسام أبو عبد الله

كُلفت من قيادة حزب البعث السفر إلى الصين للمشاركة في المؤتمر الرابع للحوار بين الحزب الشيوعي الصيني، والأحزاب في الدول العربية مع رفاق من الحزب الشيوعي السوري بجناحيه، حيث شكّلنا وفداً سورية متناغماً متفقاً على الأساسيات والقناعات الوطنية لبلدنا وشعبنا، وهذا جانب مهم جداً.

الجانب الآخر أن المشاركة لم تكن بروتوكولية من جانبنا ولا من جانب الأصدقاء الصينيين الذين حرصوا على تقديم بلدهم وسياساتهم، وتجربتهم في الجوانب كافة، ليس بهدف تصديرها لأحد، وإنما للتعلم منها، وأخذ العبر والدروس، ذلك أن السؤال الذي يطرحه الناس دائماً: ما فائدة كل هذه الزيارات، والاطلاع على التجارب، إذا كنا لا نريد الاستفادة والتعلم، خاصة إذا كان البعض منا ليس لديه الإرادة للتغيير والتغير، والتي هي سُنَةُ الكون والحياة!

جوابي: أن واجبي كغيري الكتابة عن ذلك، وإلقاء الضوء على مشاهداتي، وملاحظاتي، والخلاصات التي يجب أن تُقرأ، وتُعمم، إذ إن البقاء في المكان دون التقدم للأمام مسألة مستحيلة في هذا الزمن، وواجبنا تقديم الحلول الممكنة، وليس الندب والصراخ، وبث الطاقة السلبية، فما نواجهه شيء خطير جداً، قد يؤدي إلى الإطاحة بكل تضحياتنا الهائلة التي قدمها شعبنا الصابر.

هنا دعوني أنقل بعض ما لاحظته، وقرأته، وسجلته من خلال هذه الجولة مع القيادات، والباحثين الصينيين في الحزب والدولة والجامعات، وأهم الخلاصات:

في منهج التفكير:

تخلص الصينيون من خلال قراءة تجاربهم لأكثر من مئة عام من تقديس النصوص، والإفراط الأيديولوجي على حساب الحقائق، والواقع، والحقيقة التي تفرزها تحديات الحياة، وتطورها السريع، وركزوا على الأفعال وليس الأقوال، وعلى ثمار الشجرة وليس أوراقها فأنتجوا نمط تفكير يتعلم، ويدرس، ويأخذ حقائقه من الواقع والناس وليس من الكتب والنظريات فقط.

التركيز على الإبداع والابتكار، فقد تكررت هاتان الكلمتان كثيراً في خطابات المسؤولين الصينيين، والعبرة أنه إذا لم يكن لديك القدرة على اجتراح الحلول للمشاكل، وتكتفي بالتوصيف والتنظير، فلا مكان لك ضمن منظومة العمل، وعليك أن تغادر فوراً، ذلك أنهم يركزون كثيراً على الكفاءات، وليس على أنصافها، وعلى قصص النجاح وليس الفشل، وعندما نفهم ذلك نعرف كيف تتفوق الأمم.

المراجعة والتصحيح:

وهي عبارة تكررت كثيراً على لسان مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني، أي أن هناك أدوات ووسائل للتحقق من مدى صحة أي سياسات أو إجراءات، أو خطط، وهناك تصحيح لها بشكل مستمر وعلمي، ومدروس، والهدف ليس إلقاء المسؤوليات هنا وهناك، بل الوصول للهدف، وهنا كان الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الصيني دينغ شياو بينغ يقول: «لا يهمني لون القط إن كان أبيض أم أسود، المهم أن يصطاد فأراً».

الجمع بين البراغماتية، والمبادئ، وهي قضية ترتبط بالحكمة وخلاصات تجارب التاريخ، فالبراغماتية لا تعني مفهوماً انتهازياً، وإنما التفكير الواقعي، والتعاطي معه، وابتكار الحلول، واجتراحها، إذ لا يكفي أن تتحدث عن المبادئ، والقيم، والواقع في مكان آخر، بل عليك أن تحتفظ بها وتتمثلها بسلوكك، وأن تكون قدوة للآخرين، لكن الأهم إيجاد الحلول لمشاكل الناس، والمجتمع، والدولة.

وهناك الكثير من القضايا التي يمكن الحديث عنها، فالصينيون قالوا لنا وللعرب نحن مستعدون للتعاون ولسنا آتين للهيمنة على أحد، أو نقل التجارب، وتصديرها، ذلك أن تجاربنا موجودة، ومن يريد التعلم أهلاً وسهلاً به.

في السياسة الخارجية:

لاشك أن لدى الصين مشروعاً واضحاً ومعلناً أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 هو «حزام واحد طريق واحد»، وهذا المشروع انطلق على مستوى العالم، وليس فقط المنطقة العربية، وهو يقدم خيارات أخرى للشعوب والدول، وهي خيارات تنموية، واقتصادية، وتجارية، وثقافية، وحضارية، أي أن المشروع ليس مشروعاً اقتصادياً فقط بل يشمل جوانب ثقافية، وإعلامية، وسياسية، ولذلك فإن الرئيس الصيني أطلق عدة مبادرات عالمية مع مشروع الحزام والطريق منها: مبادرة الحضارة العالمية التي تتناقض تماماً مع الطروحات الأنكلوساكسونية التي تتحدث عن صراع الحضارات، وأطلق مبادرة الأمن العالمي التي تتحدث عن تكامل الأمن بين الدول، والحاجة للتعاون لتحقيق الاستقرار والتنمية، مقابل طرح أميركي يقوم على إثارة الاضطرابات والقلاقل، وخلق الأزمات، وإدارتها، وليس حلها، وهناك مبادرة ايكولوجية تتعلق بالبيئة ومواجهة التحديات البيئية عالمياً، ومبادرة تتعلق بالتكنولوجيا وتحديات تطورها السريع، وبالتالي فإن الرؤية الصينية ليست جزئية إنما رؤية متكاملة، وهي ليست رؤية استعمارية بل تعاونية تقوم على الشراكة، وتفتح آفاقاً جديدة من بين الدول والأمم والشعوب عبر الحوار والتفاهم، وتحقيق مبدأ رابح- رابح، واحترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتعزيز الخصوصيات الثقافية، والتنوع الحضاري، وليس فرض القيم الشاذة التي يحاول العولميون الماليون فرضها على الأمم والشعوب، ونشر الكراهية والتطرف من خلال تعميم مفاهيم: الإسلامو فوبيا، الروسو فوبيا، والتهديد الصيني، وغيره الكثير.

إن أمامنا، وأمام العرب دولاً وشعوباً وأحزاباً، فرصة تاريخية بنهوض الصين وبزوغها، ذلك أنها تقدم خيارات، وبدائل إستراتيجية لتشكيل عالم جديد متعدد الأقطاب يقوم على أسس وقواعد جديدة، وهذا العالم لن يتشكل إلا بتحالف واسع عالمياً تُواجه فيه مفاهيم الهيمنة، والسيطرة، ونهب الثروات، واستعباد الشعوب، واحتلالها، ومحاصرة الدول، وإخضاعها اقتصادياً، وسياسياً، وحضارياً.

إن ما يهمنا الآن هو كيفية مواجهة التحديات والمخاطر الماثلة أمامنا في سورية، وهو أمر يحتاج إلى نمط تفكير جديد يعتمد على ما قاله أحد القادة الصينيين يوماً ما: «لننزل إلى النهر ونتلمس الأحجار بأرجلنا»، ذلك أن النقاش والجدل، وتحميل المسؤوليات لن يفيد بشيء، ولكن في الوقت نفسه نحتاج لمنهج تفكير جديد، وأدوات عمل تعطي نتائج مع التركيز على الأشياء الجوهرية وليس الثانوية، لأنه كما قال المفكر الإيراني علي شريعتي يوماً ما: «عندما يشب حريق في بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، فاعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه لعمل آخر هو الاستحمار، حتى وإن كان عملاً مقدساً».

لدينا الطاقات والكفاءات، والشعب المبدع والصابر والمكافح، لكن دون الجرأة في الحلول والطرح، ودون تلمس أحجار النهر بأنفسنا سنبقى ندور في دائرة مفرغة، وتلمس أحجار النهر يعني قراءة الواقع، وتحولنا لقدوة للناس، وما لم نكن قدوة في السلوك والأخلاق لن نستطيع قيادة الناس في ظرف صعب للغاية ومعقد، والمسؤولية هنا علينا جميعاً في كل مكان، وكلنا قادرون على الفعل، لكن السؤال: هو كيف؟

جوابي: المبادرة ثم المبادرة، وتكاتف وتحالف القوى الخيرة والمنتجة والمحبة، على حساب قوى الفساد والإفساد التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، مع قائد هذا البلد الرئيس بشار الأسد ليس من خلال انتظار التوجيهات، والظهور بمظهر العاجزين والمتفرجين، بل العمل على إبداع وإنتاج الحلول للمشاكل وهي لن تكون بضغطة زر أو أوامر من الأعلى للأدنى، بل عمل مجتمعي شامل وكامل، نتحمل فيه جميعاً المسؤولية، وهو جواب لعبارة: ماذا نحن فاعلون؟ ولن يحك جلدنا غير ظفرنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن