قضايا وآراء

الخطاب القومي ما بين الممكن والتحديات

| محمد نادر العمري

التأمت في العاصمة اللبنانية بيروت على مدى اليومين الأخيرين من نهاية شهر تموز الماضي، اجتماعات المؤتمر القومي العربي الذي ضم أكثر من 182 شخصية يمثلون أحزاباً ومؤسسات وفعاليات سياسية وإعلامية تتبنى النهج القومي وتسعى للدفاع عنه، في ظل تحديات عدة تواجه هذا النهج والمتبنين له، تتمثل بمروحة من النقاط على صعيدين، الأول داخلي يتجلى في الأوضاع الداخلية للدول، والثاني فهو ناجم عن التحديات الخارجية، وعليه يمكن أن نورد هذه التحديات بمجموعة من النقاط المتلاحقة التي تصنف وفق الآتي:

1- تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنخب العربية على غرار باقي فئات الشعوب العربية نتيجة تراجع مؤشرات التنمية، وهو ما أدى لانشغال هذه الفئات أو معظمها في البحث عن تأمين مقومات حياتها، الأمر الذي ساهم في تراجع الخطاب القومي في كتاباتها أو تحليلاتها، أو عملها السياسي.

2- ازدياد معدلات الأمية في داخل الدول العربية نتيجة أسباب مختلفة، شكلت سبباً لا يمكن تجاهله من حيث ضعف توارث هذا الفكر وأدبياته الخطابية.

3- انتشار الخطاب والفكر الديني المتطرف في داخل الكثير من الدول العربية، ولاسيما في ظل ما تتمتع به هذه الجماعات مثل «الإخوان المسلمين» وغيرها، من خطاب لا يحتاج لعقلانية بل لملامسة الغرائز والعواطف، إلى جانب امتلاكها الموارد الاقتصادية الهائلة وتوظيفها لاستقطاب شريحة واسعة من النخب وعموم الشعوب لصفوفها خلال العقود السابقة، ومما ساعد الجماعات الدينية على ذلك هو العاملان السابقان.

4- تغيير أولويات معظم الأنظمة العربية خلال العقود السابقة، وخاصة من حيث إعلائها الخطاب والمصالح الوطنية على الخطاب والمصالح القومية، وهذا برز بعد توجه الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات نحو توقيع اتفاقيات السلام مع الكيان الإسرائيلي بشكل منفرد، إلى جانب ذلك، وبشكل مكمل لهذا التحدي، برز اتساع المسائل والنقاط الخلافية بين الدول العربية وهو ما أدى إلى اتساع الخلافات البينية واللجوء لفواعل سياسية خارجية للتعبير عن انتصارها بهذه المسائل والنقاط، وكان ذلك من تداعيات استقدام القوات الأميركية للخليج بعد الغزو العراقي للكويت مطلع التسعينيات من القرن الماضي، هذان العنصران المرتبطان بالأنظمة العربية وغيرهما من العناصر مثل تجاهل رأي النخب القومية وتهميش دورها في صنع القرار والسياسات العامة، جعلا الكثير من النخب وفئات الشعوب تتراجع معدلات إيمانها بهذا التوجه، ولاسيما بالتزامن مع التطور التكنولوجي للإعلام الذي ساهم بتغييب الفكر القومي.

5- تأثير العامل الخارجي وزيادة فاعليته ولاسيما من قبل الولايات المتحدة الأميركية والـ«ناتو» وبعض دول الجوار في الشؤون العربية بشكل ساهم في تعزيز التفرقة، وتغييب القضايا القومية مثل القضية الفلسطينية، والعمل على استبدال أولويات الصراع من الصراع العربي الصهيوني إلى الصراع العربي الإيراني، والعمل على نشر النزاعات والصراعات العرقية والطائفية بما يشكل تهديداً حقيقياً لجوهر الهوية القومية في المنطقة العربية بشكل عام.

6- تأثر المنطقة بالصراعات والحروب الإقليمية والدولية، إلى جانب الدعم الخارجي للتنظيمات الراديكالية والمتطرفة بشكل يعزز من تردي الأوضاع الداخلية للدول بشكل عام، وهو ما برز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن ثم بعد اندلاع الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية بعد عام 2011.

كل هذه العوامل الذاتية والموضوعية التي شكلت إرهاصات مرهقة أسهمت بتراجع منسوب القومية العربية لفترة من العقود السابقة ولاسيما العقود الأربعة الماضية، إلا أن هذه العوامل ذاتها هي تشكل اليوم متطلبات ملحة نحو إعادة توجيه البوصلة القومية في إطارها الصحيح، وخاصة مع المتغيرات والأحداث التي يتطلبها الواقع الداخلي للدول العربية وتشرذم مسار العلاقات البينية والتأثر السلبي بالتطورات الدولية، ومما قد يجعل الدورة الثانية والثلاثين للمؤتمر القومي العربي ذات أهمية من حيث التوقيت والمكان والمضمون والتسوية، هي مروحة من الأسباب المترابطة، والتي يمكن إيجازها بما يلي:

أولاً- إطلاق تسمية «جنين» على هذه الدورة، هو للتأكيد على الدور الذي قامت به المقاومة الفدائية الفلسطينية بدعم من البيئة الشعبية الحاضنة، بالتصدي للعدوان والاجتياح الإسرائيلي الذي شهدته مدينة جنين ومخيمها بداية تموز الماضي، والذي أدى لتلقي جيش الاحتلال وحكومته اليمنية المتطرفة صفعة مؤلمة جديدة بعد معركة «ثأر الأحرار» في قطاع غزة، وبالتالي فإن إطلاق دورة جنين على هذا الاجتماع، يؤكد حتمية التمسك بأداء المقاومة كخيار أساسي وحيد لاسترجاع الحقوق وإسقاط المشاريع الصهيونية وعدم التعويل على المسار التفاوضي في استرجاع هذه الحقوق.

ثانياً_ صحيح أنها ليست المرة الأولى التي ينعقد بها هذا المؤتمر في العاصمة اللبنانية بيروت، إلا أن أهمية انعقاده في هذا التوقيت ضمن الجغرافيا اللبنانية، تكمن في إخفاق كل المساعي التي بذلت من بعض القوى اللبنانية والخارجية على مدى أعوام سابقة في تطويق أداء المقاومة الإسلامية في لبنان، وتشويه صورتها وشيطنة دورها من خلال تحميلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في لبنان.

ثالثاً- جاء انعقاد هذا المؤتمر في ظل تغاضي ما يسمى المنظمات الدولية المختلفة عن الجرائم العنصرية المرتكبة من حكومات الاحتلال الإسرائيلية ولاسيما الحالية منها تجاه الشعب الفلسطيني.

رابعاً- يأتي انعقاد المؤتمر مع تصاعد الزخم في الخطاب القومي بعد تلمس خطورة انتشار الخطاب الديني المتطرف الذي أدى لإيجاد ظروف وبيئات مناسبة لانتشار التنظيمات الإرهابية، وسط حالة من استغلال الخلافات البينية العربية وتماهي بعض هذه الدول بالمشاريع العدوانية على نظرائها من الدول العربية ضمن صراعات وخلافات جيوإستراتيجية، أدت في مرحلة معينة لتهديد مصالحها ومقومات أمنها الداخلية.

خامساً – أدت الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية ولاسيما الانعكاسات التي أفرزها الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتداعيات الأزمة الأوكرانية، لإعادة التوجه القومي للدول العربية، وبصورة خاصة لمواجهة التحديات التي افرزتها، وهو ما انعكس بشكل واضح في مخرجات التي انبثقت عن اجتماع جدة لزعماء الدول العربية.

بالعموم يمكن القول: إن التوجه القومي وتبني هذا النهج كثقافة وممارسة وتطبيق، لا يمكن أن يتم أو أن يشهد حالة من النهضة كما حصل في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلا بعد توفر جملة من الشروط والمقومات الأساسية، والتي تتمثل أبرزها في توافر الإرادة السياسية للأنظمة العربية القائمة لتبني هذا النهج وعدم تضيق المسارات أمام النخب والأحزاب والقوى القومية، إلى جانب تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية الشاملة لكي يتمتع السواد الأعظم من الشعوب بالقدرة على تبني هذا النهج بإيمان مطلق دون الاضطرار للانخراط في إغراء الخطاب الديني المتطرف ومقدراته المادية الهائلة ووعوده الجاذبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن