لا يشك اثنان الآن بأن الزمن الذي نمر به ونعيشه من أكثر اللحظات الحرجة، والحساسة في تاريخ سورية على الإطلاق، فالظروف الاقتصادية والمعيشية للسوريين في أسوأ حالاتها، لا بل يمكن القول إنها الأسوأ على الإطلاق، وهذا الوضع يجب أن يدفعنا جميعاً في كل مكان للتفكير الجدي في البحث عن المخارج التي تخفف من آلام ناسنا وشعبنا، ومحاولات البعض إلقاء المسؤوليات على هذه المؤسسة أو تلك، وذاك الشخص أو المسؤول هي نوع من تبرئة الذمة، وهروب من المسؤولية، إذ إن المطلوب إطفاء الحريق الآن، وليس البحث في أسباب نشوبه، وما عدا ذلك يبدو لي أقرب إلى التفكير العقيم الذي لن ينتج حلولاً لأحد في وقت يعتقد فيه أعداؤنا أننا نسير إلى الهاوية، وهم لن يرحمونا أبداً إذا قصّرنا، أو ألقينا التهم جزافاً على بعضنا بعضاً لأن هذا ما يريدونه، ويعملون عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار.
إذا دققنا ما الذي يجري فسنجد ما يلي:
1- ضغط أميركي هيستيري على كل الدول العربية لوقف مفاعيل عودة سورية إلى الجامعة العربية، والآثار الإيجابية التي كانت متوقعة من هذا المسار، سواء من خلال تشريعات أصدرها الكونغرس الأميركي، أم زيارات مباشرة لمسؤولين أميركيين للمنطقة، إضافة لتهديدات علنية وسرية للدول العربية.
2- زيادة الوجود العسكري الأميركي في مناطق شمال شرق سورية، وإعادة هيكلة الميليشيات التي تعمل حرساً للاحتلال، وضد أبناء شعبها، وإطلاق خلايا داعش لإعادة نشر العمليات الإرهابية، وتهديد حياة السوريين، وضرب الاستقرار النسبي الذي شعرنا به بالتدريج، إضافة لمحاولات فرض كيان انفصالي إثني، وربطه بشمال العراق، وهو ما وصفه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في طهران: إن هذه الميليشيا أي المسماة «قسد» ميليشيا إجرامية وانفصالية.
3- السعي الأميركي المحموم لإغلاق بوابات الحدود مع العراق لقطع التواصل البري بين طهران- بغداد- دمشق، وإغلاق المجال الاقتصادي الحيوي بين دمشق وبغداد، واحتمالاته بدعم عراقي لسورية سواء باستقبال الصادرات السورية، أم تقديم دعم طاقوي ممكن، وإحياء خط كركوك- بانياس، وانضمام سورية إلى مشروع التنمية العراقي الذي هو بشكل أو آخر جزء من مبادرة «الحزام والطريق» الصينية.
4- رفع مفاعيل الحرب النفسية- الفيسبوكية على الشعب السوري بهدف كسر إرادته نهائياً، وإصابته باليأس والإحباط تمهيداً للانتقال إلى الفوضى في الشارع تحت عناوين براقة، لكن «كلمة حق يراد بها باطل»، وهو ما يمكن رصده من خلال أولئك السوريين الذين يخرجون علينا يومياً بفيديوهات تحريضية قذرة المحتوى واللغة والأسلوب، إذ يعزفون تارة على منوال طائفي، وتارة إثني، والعنوان ركوب موجه الاستياء العام لدى السوريين، وصبّ الزيت على النار، من دون طرح حلول ومبادرات، أو مساعدة الناس، وهو أقرب إلى الطابور الخامس، ذلك أننا يجب أن نفهم أن النقد مطلوب وبشدة، لكن ليس على الطريقة التي يعمل بها هؤلاء، فالنقد يجب أن يكون علمياً وموضوعياً، ويقدم حلولاً إيجابية، ومخارج للحل، وليس عبر التحريض والإثارة، وركوب آلام الناس، وضخّ موجات الإحباط واليأس لزيادة الضغط النفسي ما يؤدي إلى نتائج كارثية.
ما نحن فيه يحتاج إلى المبادرات الخيرة، والعقول النيرة، وليس إلى الردح والصراخ، لأن هذا الأسلوب لن يغير من واقع الناس شيئاً، بل هو نوع من ركوب الموجة، والمزايدة التي لسنا بحاجة لها الآن.
وإذا كان البعض يريد حلولاً، فالحل مجتمعي، ومشترك، وبين كل السوريين، وليس بيد طرف واحد، والحل لدى الحكومة ومجلس الشعب والبلديات والنقابات، والاتحادات المهنية، وجمعيات المجتمع الأهلي، وصولاً للمبادرات الفردية، أي إن المطلوب جهود جماعية من دون استقالة من الدور، والبحث عن كبش فداء، وهذا يجب أن يترافق مع محاسبة صارمة لمنظومة الفساد والإفساد، التي ما من شك أنها منظومة وليست أفراداً، وهذه المنظومة تركز على المصالح الضيقة والانتهازية، وعلى النهب المنظم وتبادل المنافع، وتشكلت عبر سنوات طويلة، وازداد دورها خلال فترة الحرب الفاشية لتشكل قوة ضاربة، قادرة على إحباط أي مشروع إنقاذي للبلاد.
مواجهة هذه الشبكة والبنية المعقدة ليست عملية سهلة وبسيطة كما يعتقد البعض، بل هي عملية تحتاج إلى قوانين وأنظمة وتحول رقمي، والأهم المساءلة والمحاسبة المستمرة، إضافة إلى حسن انتقاء الكوادر والشخصيات التي تتمتع بالنزاهة والكفاءة، ودعمها وتغطيتها لإنجاز المطلوب.
إن إرهاصات هذا الزمن الصعب كثيرة وعديدة، ونحن أمام مرحلة جديدة من الحرب تأخذ أشكالاً عديدة، أخطرها الشكل الاقتصادي الخطر والمعقد، الذي يريد إذلال الناس، وامتهان كرامتهم، وتشريد المزيد من السوريين، ولا أعتقد أن اليأس والقنوط هما طريق للحل، بل تشبيك الأيادي، والإرادات للخروج الآمن الذي لا مكان فيه للخلاص الفردي، لكن في الوقت نفسه نحن بحاجة لإرادة صلبة وعمل مستمر وتفكير جديد خارج صندوقنا المعتاد.