منذ أن خرجت ورقة «داعش» للعلن صيف عام 2014، بدا وكأن التنظيم يمتلك قسطاً لا بأس به من «الحصافة» و«التبصر» في كل ما يجري في المحيط، حيث ستمنح تينك «الميزتين» صانع القرار لديه القدرة على تقدير حالة الاحتياج التي يمثلها بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك، وبناء عليه كانت القرارات غالباً ما تتخذ تبعاً لهذه التقديرات الأخيرة التي تتيح للقائم بالفعل الانتقال من مرحلة «الانكفاء»، مثلاً، إلى مرحلة «التمدد»، وتتيح أيضاً الانتقال من الأخيرة للأولى بطريقة عكسية تبعاً لحالة الاحتياج السابقة الذكر، ثم تبعاً للقراءة التي تحدد اتجاه هبوب الرياح في المحيط.
قرأ التنظيم حالة الاستقطاب الروسي الأميركي المتصاعدة منذ نحو يزيد على الشهرين في مناطق الشمال والشمال الشرقي من البلاد، التي تشير معطيات وتقارير إلى أن التفكير الأميركي يظهر احتمالية أن تذهب القوات الأميركية لاجتراح سيناريو يقودها للسيطرة على مدينة البوكمال في سياق الصدام الإيراني الأميركي الحاصل راهناً على هامش مفاوضات مسقط للعودة إلى «اتفاق» ما بخصوص الملف النووي، على أنها فعل قد يقود إلى رسم خرائط سيطرة جديدة ستكون مغايرة للسابقة منها، والجديدة منها، قد تزيد من هوامش الحركة والمناورة لدى عناصر التنظيم الذي عانى مؤخراً «كسلاً وظيفياً» على خلفية جنوح أطراف الصراع للتهدئة أعوام 2020 و2021، وعليه فقد كانت العمليات التي تنفذها خلايا التنظيم المنتشرة على أطراف البادية، خلال العامين السابقي الذكر، أقرب لـ«تذكير» بالوجود وبأن «الورقة» لا تزال تمتلك خاصية «الحيوية» التي تجعلها في وضعية الاستعداد للاستثمار لمن يريد القيام بفعل من ذلك النوع، لكن الأمر بدا مختلفاً، من حيث الطبيعة والأهداف، مع التفجير الذي شهده حي السيدة زينب جنوب العاصمة دمشق يوم الخميس 27 تموز المنصرم، والذي أعلن التنظيم، بعد مرور يومين عليه، مسؤوليته عنه في بيان نشره على تطبيق «تليغرام»، حيث الفعل أشبه بتقديم «أوراق اعتماد» جديدة لـ«السفارة» نفسها التي تجهد بلادها راهناً لقطع الطريق الموصل ما بين طهران ودمشق عبر السيطرة على البوكمال، فمناخات الحدث الذي جرى قريباً من ذكرى «عاشوراء» كان يريد التذكير بـ«عداء إيديولوجي» من النوع الخادم لها، أي لـ«السفارة» التي ما انفكت تستخدم قاعدة «التنف» قاعدة دعم لوجستي من شأنها لعب دور إسنادي لعمليات استهداف العمق السوري عبر سلاح الجو الإسرائيلي، وإسنادي أيضاً لمقاتلي «داعش» المنتشرين على أطراف البادية السورية.
يدرك التنظيم، أنه لا يزال يمثل بالنسبة للولايات المتحدة، وحليفتها «قسد»، ورقة لم ينته مفعولها بعد، وأن جزءاً مهماً من «مشروعية» البقاء لديهما لا يزال يقوم على استمرار «الورقة» ولو بحالة «كمون» حتى إذا تضعضعت «المشروعية» بات لزاماً انتقالها إلى حالة النشاط، لكنه مدرك أيضاً لحقيقة أن الاثنين، أي الولايات المتحدة و«قسد»، يسعيان إلى ضبط أدائه وفق تراسيم خادمة لمشروعيهما من دون «مراعاة» لحالة الاحتياج الداخلي للتنظيم التي تفرض أحيانا على هذا الأخير أداء لا يتناغم بالضرورة مع ذلك الضبط، الأمر الذي يفسر خروج التنظيم في بعض الحالات ليظهر بدور المناهض للوجود الأميركي في المنطقة، ويفسر بدرجة أكبر ذهاب «قوات التحالف الدولي» إلى تنفيذ عمليات ضد التنظيم من نوع الإعلان عن اغتيال بعض قادته الأمر الذي حدث مراراً خلال الأعوام الأربعة الماضية التي أعقبت إعلان «الانتصار النهائي» عليه في الباغوز شهر آذار من عام 2019، مع الإشارة إلى أن تلك العمليات كثيراً ما يشوبها الغموض من نوع ما حصل مطلع شهر تموز المنصرم عندما أعلنت «قوات التحالف» في بيان لها عن «اغتيال قيادي في التنظيم بريف حلب الشرقي» حيث سيذكر البيان أيضاً أن اسم ذلك القيادي هو أسامة المهاجر ليتبين فيما بعد أن من اغتيل اسمه الحقيقي همام الخضر وأن لا مؤشرات تؤكد أن لهذا الأخير صفة قيادية في التنظيم كما ذكر البيان، بل لا مؤشرات تؤكد وجود صلة له بالتنظيم أساساً.
من المرجح أن يرمي «داعش» بثقله في غضون المرحلة المقبلة ليثبت حضوراً في مناطق الشمال والشمال الشرقي من البلاد وكذا في مناطق الجنوب منها أيضاً، قياساً لاعتبارات عدة أبرزها أن الصدام الروسي الأميركي في سورية بات واضحاً ومن المرجح أن يتخذ، ذلك الصدام، منحى تصاعدياً في الأسابيع المقبلة، وقياساً أيضاً لاحتمالات أن تشهد الأولى، أي مناطق الشمال والشمال الشرقي، تغيراً في خرائط السيطرة من النوع الذي يحفز فعلاً من ذلك النوع، ناهيك عن أن «نشاط» التنظيم يمنح الولايات المتحدة ذريعة القول إن الاحتكاك الروسي الأميركي «يعيق أعمال محاربة الإرهاب»، في حين يتيح لـ«قسد» القول إن «الاستهدافات التركية لمواقعها من شأنه تنشيط هجمات داعش»، وهذا كله يبدو ضرورياً أكثر إذا ما ارتأت أطراف الصراع بأن وضعية «الستاتيكو» لم يعد ممكناً الحفاظ عليها في ضوء السخونة الحاصلة، ما بين الغرب وروسيا، على الجبهة الأوكرانية التي بات من الصعب حصر تداعياتها داخل الجغرافيا التي يجهد «الكل» على ألا تخرج منها، وكذا في ضوء التقارب التركي السوري، الذي وإن خبا بريقه مؤخراً، لكنه يظل بالتأكيد عامل قلق أميركي لأنه يقوم أصلاً على نقطة تلاق كبرى، ما بين دمشق وأنقرة، تتمثل في أن كلا الاثنتين تنظران للوجود الأميركي على الأراضي السورية على أنه مصدر الاضطراب الأكبر الذي يستحيل معه تحقيق الاستقرار.