قضايا وآراء

عندما تقر بريطانيا بـ«مجارز» ضد الإيزيديين!

| عبد المنعم علي عيسى

شكل بروز الدور الذي قام به «تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق» صيف العام 2014 ظاهرة كانت ذا أبعاد داخلية ذاتية وأخرى خارجية لعبت دوراً في قولبة الظاهرة ووضعها في سياقات خادمة لمشروع «التفتيت الذري» الذي قادته الولايات المتحدة في المنطقة منذ غزو العراق وإسقاط عاصمته ربيع العام 2003، الأمر الذي أظهرته مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي نشرتها العام 2014، أي بعد مغادرتها لمنصبها، وفيها قالت بالحرف: إن بلادها «كانت على وشك الاعتراف بدولة إسلامية تمتد على أجزاء من سورية والعراق» قبيل أن تتغير المرامي الأميركية لتصبح السياسات، فيما بعد ذلك الفعل، في حال تصادم مع التنظيم الذي راح يعمل على رسم حدود «دولته» بالنار والدم.

قد تكون عوامل بروز التنظيم الذاتية غاية في التعقيد مما تفرضه قضايا «التراث» الشائكة التي جرى التعامل معها بشكل سطحي ملغٍ لعاملي الزمان والمكان اللذين يجب أخذهما بعين الاعتبار، وتفرضه حالة تشظي المذاهب التي راحت تنغلق على دواخلها بدرجة تجعل منها تناحرية مع المحيط الأقرب قبيل أن تكون مع الأبعد، لكن الثابت هو أن التنظيم كان قد قرر انتهاج سياسات الإبادة العرقية والمذهبية والدينية سبيلاً إلى تعزيز سطوته وإبراز نهجه «الإسلامي» الذي رسمه دعاة ومفتون كانوا مدركين لحقيقة أن النهوض في المنطقة كان قد ارتبط تاريخياً بظهور الإسلام، وأن الوقت، في حينها ولايزال، لا يتسع لأسئلة من نوع: ولكن أي إسلام؟

يوم الـ 3 من آب 2014 شن تنظيم «داعش»، المسيطر على مدينة الموصل آنذاك، هجوماً على قضاء «شنكال» التابع لمحافظة نينوى شمال غرب العراق، والذي تقطنه أغلبية من «الإيزيديين»، هجوماً ارتكب من خلاله مجازر إبادة طالت الأطفال والنساء والرجال، كما جرى اختطاف الآلاف ممن لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم على الرغم من مرور تسع سنوات على تلك الحادثة، وعلى الرغم من هول ما جرى الذي راحت ترصده تقارير إعلامية وكذا منظمات حقوقية عالمية كانت في جلها توثق لشهادات من الناجين، إلا أن الحدث لم ينتقل من بعده الإعلامي إلى أبعاده التي يستحقها.

في أيار من العام 2021 نشر فريق تحقيق تابع للأمم المتحدة تقريراً قال فيه إنه استطاع «جمع أدلة واضحة ومقنعة» على ارتكاب «داعش» إبادة جماعية ضد الإيزيديين، ومن بعدها راحت القرارات الصادرة عن برلمانات أوروبية مثل بلجيكا وهولندا وأستراليا تصب في السياق الذي ذهب إليه تقرير الأمم المتحدة آنف الذكر، ليلحق البرلمان الألماني بالركب شهر كانون ثاني المنصرم، وإذا ما كان ذلك كله نتاجاً لحالات يفترض أنها تشكل تعبيراً عن ارتقاء «البعد الإنساني» في بنيان وتركيبة المجتمعات التي تمثلها تلك البرلمانات، إلا أن ثمة تساؤلات مشروعة يمكن لها أن تظهر أن «وراء الأكمة ما وراءها»، فالإيزيديين ومعهم معظم الأقليات الدينية والعرقية، سبق لهم أن تعرضوا لإبادات جماعية زمن حكم العثمانيين 1516 – 1916 من دون أن تظهر ردات فعل شبيهة لتلك التي ظهرت مؤخراً، بل إنهم، أي الإيزيديين، تعرضوا أيضا زمن حكم صدام حسين لأفعال مشابهة ولم تستفق في حينها نزعة الغرب «الإنسانية» فالمصالح في حينها كانت تقول بضرورة الصمت لكنها تغيرت مع الانفجارات التي شهدتها المنطقة بدءاً من الانفجار العراقي ربيع العام 2003.

من بين تلك المواقف يبقى «الموقف» البريطاني هو الأهم والأخطر لاعتبارات تتعلق لكون السياسات البريطانية لا تزال تمثل «عمق» الغرب وذروة توجهاته بعيدة المدى، والمؤكد هو أن السياسات الصادرة عن المملكة كفيل برسم «انفوغراف» واضح لنيات الغرب تجاه أي مسألة أو صراع أو حدث، والشاهد هو أن أنسجة الغرب بشتى صنوفها «تستنير» بـ«الفنار» البريطاني الذي أثبت أنه يصدر الضوء الأبعد مدى لهداية السفن، وعلى الرغم من أن إعلان الخارجية البريطانية يوم 1 آب الجاري عن أن الحكومة «أقرت بارتكاب تنظيم الدولة الإسلامية أعمال إبادة جماعية ضد الإيزيديين بالعراق عام 2014» يمثل «انتصاراً» لحقوق الإنسان، لكن الحيثيات تشي بغير ذلك، فالتنظيم اليوم لم يعد قائماً وبمعنى أدق لم يعد قائماً ككيان وهذا لوحده يثير شبهة في التوقيت خصوصاً إذا ما استحضرنا تاريخ بريطانيا الذي تمثل باعتراف «حكومة صاحبة الجلالة بالهولوكست» وقصد بها المجازر التي ارتكبها نظام هتلر ضد اليهود، كان ذلك الاعتراف، الذي صدر العام 1945، قد شكل أرضية إنسانية، بل وإيديولوجية، لنشوء كيان الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين التاريخية.

بشكل ما يمكن القول: إن اعتراف الخارجية البريطانية بمجازر «داعش» ضد الإيزيديين، المشتركين مع الأكراد بالقومية والمفترقين معهم بالدين، يمثل محاولة لاستنساخ السيناريو البريطاني الذي استند، منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، على «المحرقة اليهودية» لتسويقها كذريعة أسست لقيام «دولة» إسرائيل شهر أيار من العام 1948، فالحدث، أي اعتراف الخارجية البريطانية، لو كان بريئاً لذكر مثلاً، المجازر التي ارتكبها التنظيم عينه ضد «الآشوريين» بقرى تل تمر 23 شباط 2015، أم إن دور هذه الأخيرة لم يأت بعد بحكم الأشهر السبعة التي تفصل بين الحدثين؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن