لسنا بحاجة لنبرهن أن الولايات المتحدة الأميركية هي رأس الأفعى التي يجب قطعها كي ترتاح المنطقة، من أطراف إيران إلى بلاد الشام، ذلك أنها ضمن إطار المحافظة على هيمنتها العالمية، ومنع ظهور أقطاب جدد في العالم تعمل في كل مكان من أجل ذلك، وهذا بدا واضحاً في مرحلة ما سُمي بـ«الربيع العربي»، وما تلاه وصولاً لإعلان الحرب الفاشية على سورية التي تعتبر من أكثر الحروب عدوانية وشراسة على بلد وشعب صغير في المشرق العربي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا الكلام باعتراف الكثير من المفكرين، والساسة الغربيين الموضوعيين، والسؤال: لماذا؟
ببساطة شديدة لأن السيطرة على الموقع الجغرافي لسورية بنظام موالٍ للغرب سوف يغير الكثير من المعادلات، ليس الإقليمية فقط، إنما الدولية أيضاً، وهذا يعني أيضاً ضرب ظهر المقاومات في المنطقة، وإنهاء الحاضن الأساسي لها، وكذلك إنهاء الوجود الروسي، وتمدد الصين بنفوذ حيوي، وضمان أمن الكيان الصهيوني، وتطبيق نظريات العرقنة، أو اللبننة على سورية، وإنهاء الروح السورية العروبية الحضارية، أي تدمير الهوية وجذورها.
هذه الأهداف الكبرى لم تتغير على الإطلاق، لا بل يمكن القول إن شراسة الهجوم الاقتصادي لتدمير مقومات حياة السوريين في أوجها، بدءاً من احتلال منابع النفط والغاز والقمح والقطن والمياه، وصولاً للتفكير في إغلاق المعبر المتاح بين سورية والعراق، ووصل مناطق الجنوب السوري مع الشمال الشرقي على طول الخط الحدودي مع الأردن والعراق مع بعضها بعضاً لقطع التنفس أمام الدولة السورية، وخنقها من الجوانب كافة، وهذه الخطة الأميركية تترافق مع إعادة إحياء خلايا داعش لتنظيم حرب عصابات واستنزاف، وإعادة ترتيب أدوات المرتزقة تحت عناوين عديدة، ليشكلوا رأس حربة المحتل الأميركي في السيطرة على هذه الجغرافيا الواسعة، وتنفيذ الأجندات الأميركية.
فمن يعتقد أن التفاوض مع الأميركي هو الأسلم والأفضل، وسيخرج السوريين من معاناتهم التي لا توصف بالكلمات، هو واهم ومشتبه! لأن شروط وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول التي حملها للرئيس بشار الأسد عام 2003 بعد غزو العراق لم تتبدل، ولم تتغير، والمطلوب من سورية باختصار التسليم، كي لا أقول الاستسلام.
سورية واحدة من النقاط الاستراتيجية للاشتباك العالمي مع روسيا والصين والقوى الصاعدة، وموقعها «نعمة- ونقمة»، فلقد سماها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون فوستر دالاس بـ«حاملة الطائرات»، ولهذا فإننا جزء من منظومة عالمية، وصراع دولي كبير، إذ شهدت منطقة الجزيرة السورية 23 حادثاً خطيراً بين الروس والأميركيين، فتحدثت مصادر البنتاغون أكثر من مرة عن خطورة هذه الحوادث، وزاد الأمر وضوحاً كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل فترة حين قال: «إن روسيا لا تريد صداماً عسكرياً مع الولايات المتحدة في سورية، ولكنها مستعدة لأي سيناريو»، أي هناك تحضيرات مستمرة لأسوأ السيناريوهات، حيث أجرى الجيشان السوري والروسي مناورات مشتركة في مناطق البادية وريف حلب وحماة، وإحدى هذه المناورات ليلية، ما يدل على أن الاستعدادات تتم لأسوأ الاحتمالات، خاصة أن واشنطن أعلنت أكثر من مرة أنها لن تنسحب من الأراضي السورية المحتلة! ما دفع وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد للقول من طهران: إنه من الأفضل للولايات المتحدة أن تنسحب بدلاً من أن تُجبر على الانسحاب.
واشنطن زادت من إمكاناتها التسليحية في قواعدها، وفي الوقت نفسه دفعت بأنواع أسلحة جديدة من المدفعية والطيران، وتعمل على الدفع بأدوات محلية مرتزقة للصدام مع الجيش العربي السوري لإقامة منطقة عازلة بين وجود قواتها المحتلة والجيش السوري وحلفائه، وهو ما تعمل عليه وتدعمه.
في المقابل فإن سورية ومحورها يحشد، ويستعد للسيناريو الأسوأ، كما أنه يريد أن يفهم واشنطن أن استمرار الواقع الراهن غير ممكن، أي حالة الجمود والمراوحة، من خلال زيادة الضغط الاقتصادي- الاجتماعي على الداخل السوري، ما يؤدي للتآكل الذاتي التدريجي والانهيار الشامل حسب ما تروج له الدعاية المعادية.
بعض الأطراف الأميركية على خلاف مع أطراف أخرى داخل إدارة بايدن، حيث ترى أن الانسحاب أفضل لكسب تركيا من ناحية، والتركيز عليها كجزء من «ناتو» ضمن إطار الصراع مع روسيا، وسبق لإدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن أعلنت الانسحاب مرتين متتاليتين عامي 2018 و2019 لكنها اصطدمت بمعارضة البنتاغون، حيث ترى هذه الأوساط أن الانسحاب من سورية في ظل احتدام الحرب مع روسيا في أوكرانيا سيكون له تداعيات هائلة، وكارثية تشبه عملية الانسحاب من أفغانستان، وفي ذلك تسليم للروس دون مقابل، وخاصة أن ذلك يترافق مع فشل خطة الهجوم المضاد الأوكراني.
إن الولايات المتحدة لن تنسحب من الأراضي السورية، لأن التكلفة لا تزال ضئيلة جداً، لا بل معدومة، وهي تحقق أهدافها المعروفة، المتمثلة بقطع طرق محور المقاومة، وخنق الدولة السورية والشعب السوري، ومنع روسيا من الوجود المريح في المنطقة، إضافة لعرقلة مشروع حزام واحد طريق واحد الصيني.
في ضوء ما عرضناه، يبدو واضحاً أن هدف إخراج الاحتلال الأميركي أصبح حاجة، وضرورة لأن بقاء هذا الاحتلال يعني استمرار الإرهاب والمعاناة والضغط الاقتصادي- الاجتماعي، وتهديد وحدة سورية، ومهما كان الثمن الذي ستدفعه سورية ومحورها كبيراً، فإن عدم دحر الاحتلال الأميركي من الأراضي السورية سيعني استمرار معاناتنا وابتزازنا وتجويعنا وحصارنا وموتنا البطيء، وقد سبق أن كتبت دون رؤية جثث جنود الاحتلال الأميركي منتشرة في البادية السورية، وحيث يحتمون بقواعدهم لن تنسحب أميركا، ولن نشعر ببداية الانفراج، والعودة لدورنا الفاعل، والبلاء كما أسلفت في أميركا احتلالها، لذلك نحن أمام مرحلة خطرة، وحساسة، والقرار بيد القيادة السورية، محورها، ولا حلول أخرى حتى الآن.