من دفتر الوطن

ابتلاع أم حَدَّين

| حسن م. يوسف

«إن قلت آه شمَّتُّ العدا بِيَّا / وان خليتها بقلبي تزيد بلواي».

منذ أن بدأت الفاشية العالمية بالتعاون من أدواتها المحلية شن هذه الحرب الإجرامية على وطني الحبيب سورية، تقفز هذه العبارة إلى ذاكرتي كلما جلست لكتابة هذه الزاوية، إذ أجد نفسي موزعاً بين رغبتي في إطلاق الآه الحبيسة في صدري مع إمكانية شماتة الأعداء بي، أو أن أدفنها في قلبي لتزيدني ألماً على ألمي. والحق أنني عندما أكتب لا أسمح للرقيب أن يقترب مني، إذ أطلق العنان لكلماتي كي تعبر عن كل ما يعتمل في نفسي، لكنني بعد انتهاء الكتابة أتتبع ظلال الكلمات بتوجس، وغالباً ما أبتر المشاغب منها، كي لا تصب كلماتي في طواحين أعداء بلدي! صحيح أنني، خلال السنوات الماضية، كنت بين وقت وآخر أرخي الزمام لكلماتي، وأطلق آهاتي، لكنني في كل مرة كنت أشعر بالندم، عندما أقرأ أو أسمع تعليقات الصيادين في المياه العكرة. وقد بلغ ندمي أقصى مداه عندما استبعدت من الدعم، وأعلنت عبر صفحتي في الفيس بوك أنني سأستبعد الحكومة من دعمي وسأتوقف عن التعليم والعمل في المؤسسات الحكومية التي لي علاقة بها. وقد ندمت ندامة الكسعي على هذه الخطيئة التي خدمت من لا أحترمهم ولا أؤمن بمشروعهم. ونكاية بهذه الأبواق الخارجية التي استغلت، استغلالاً بذيئاً، الآه التي أطلقتها، فقد عدت للتعليم في دبلوم علوم السينما منذ مطلع العام وما أزال، رغم أن ما أتقاضاه لقاء محاضراتي لا يغطي عشر ثمن البنزين الذي أحرقه في طريقي إلى دمشق. والحقيقة أنني عاهدت نفسي، منذ مطلع هذا العام على ابتلاع الآه حتى لو كانت سكيناً أم حدين، عندما أشعر أنها يمكن أن تخدم أعداء وطني. ومنذ ذلك الوقت تبرز عبارة «إن قلت آه شمَّتُّ العدا بِيَّا / وإن خليتها بقلبي تزيد بلواي» كلما شرعت في كتابة صفحة جديدة «من دفتر الوطن».

قبل حوالي أربعين عاماً اختارني الزميل طيب الذكر إبراهيم ياخور رحمه الله لكي أكون شريكاً له في إصدار مجلة ملونة بثلاث لغات باسم (سورية السياحية) لحساب وزارة السياحة. ولمناسبة الشروع في بناء سد تشرين في منطقة الخابور فقد تم الاتفاق في اجتماع أسرة التحرير، على أن أقوم بجولة ميدانية في حوض الخابور وقد كانت نتيجة الجولة التي دامت نحو أسبوع أن كتبت تحقيقاً مصوراً عن تلك المنطقة من أربع وعشرين صفحة تضمن أكثر من خمسين صورة التقطتها بنفسي إضافة لغلافي المجلة العربي والأنجلو- فرنسي.

أثناء تنقلنا بين القرى المتناثرة على ضفاف نهر الخابور رأيت بدوياً مجدور الوجه، مطبوخاً بالشمس، يجلس القرفصاء على هضبة وهو يراقب القطيع الذي يرعاه. ألقيت عليه السلام فرد وهو يرمق السيارة الحكومية التي نزلت منها بنظرة متوجسة، ولما سألته عن الحال تنهد وقال: – «إيييييييه! إن قلت آه شمَّتُّ العدا بِيَّا / وإن خليتها بقلبي تزيد بلواي».

صحيح أنني لم أر ذلك البدوي سوى تلك الدقائق العابرة، لكنني منذ مدة صرت أراه وأستعيد عبارته كلما جلست لكتابة هذه الزاوية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن