ثقافة وفن

العائلة الكريمة والمحترم..!!

| إسماعيل مروة

لمدة خمس سنوات قضيتها خارج سورية كان معنا صديق دكتور، تظهر عليه سيماء الوقار والدماثة، وكلما التقاك سألك: كيف العائلة الكريمة؟ إن شاء الله لا يوجد معاناة؟ إن شاء الله تتدبرون الأمور؟ زورونا مع العائلة الكريمة! وإن كنت طيب القلب تبدأ الحديث الذي لا ينتهي، وتنفث همومك بين يديه، لتجد أن كل ما قلته سجله في ذاكرته، ثم دوّنه على الورق، ثم رفعه إلى المنسق الأكاديمي في الجامعة، وغالباً ما تكون النتائج كارثية، وفي أحسن الأحوال تؤثر في تجديد العقد!
ولسوء ظني بنفسي، وحسن ظني بالآخر لم أستمع إلى أي نصيحة جاءتني من الزملاء القدامى، ولم آخذ بتحذيراتهم من تقلب هذا الرجل، وصار ديدنه أن يجلس معي دوماً، وأن يحدثني عن همومه وأحدثه عن همومي، حين اضطررت لأخذ قرض كبير لشراء أرض وبناء بيت هنا في ريف دمشق حدثته بذلك، وعبرت له عن خوفي من ألا يتجدد عقدي، فالقرض يحتاج إلى سنوات خمس حتى أسدده، رفع يديه إلى السماء، طبعاً في الكافتيريا، ودعا لي أن يفرّج الله عني، وأن أتمكن من تسديد القرض، أي أن يتم تجديد عقدي لسنوات خمس بصيغة أوضح! وكان كلما التقاني سألني عن الأخبار، وصار قرضي هاجسه الذي يفكر فيه، ثم لم يلبث أن بدأ بلومي لأنني غامرت، فحسب رأيه المنسق لا أمان له، وإن علم بالقرض فإنه سينهي عقدي بغية إيذائي! والذي لا يذهب من الخاطر أن المنسق الدكتور طاهر اتصل بي ذات أمسية، وطلب أن نجلس لشرب القهوة في أحد الأماكن الفارهة، وصرت أخمّن ماذا يريد الدكتور طاهر! وجاءني هاتف آخر منه يسألني عن الطعام الذي أحبه، فتسلل الاطمئنان إلى نفسي، وقصدته في الموعد المحدد، كان بقامته المديدة وجسمه الضخم أسبق مني بالوصول، وجلسنا، وكعادته، بدأ يعطي عبارة ملغزة، ويطرح سؤلاً، وفي أثناء الطعام قال لي (قصة القرض إيه يا عمنا)؟ فعرفت ما يريد، فأجبته: لا شيء، أليس من حقي أن أشتري بيتاً؟ أخذت القرض لهذه الغاية، فسألني: وكم سنة يحتاج القرض، أجبته خمس سنوات، والعقد كان يتجدد سنوياً، فقال لي: دعوتك هنا لأنك أخ وصديق، اعلم يا عمنا أنه لن يتمكن أحد من إنهاء عقدك ما دمت أنا هنا، وأرجو أن تطمئن إلى أن عقدك سيستمر لسنوات خمس على الأقل! وعلمت منه أن صديقنا الذي يسأل دوماً عن العائلة الكريمة هو الذي أخبره بالموضوع! وبما أن السائل عن أخبارك وعن أخبار أسرتك الكريمة يأتي بعد المنسق في المرتبة، فقد صار حريصاً على كتابة تقارير مسيئة لي، وصار حريصاً على أن يحضر هو دروسي ليكتب تقريراً سيئاً بي، وفي كل صباح يحرض المنسق الأكاديمي ضدي لعلّ عقدي ينتهي كما شاء!
والمنسق لم يخبره بلقائنا، ولم يخبره بوعده لي، وكان كلما كتب شيئاً طلب منه المزيد، ويفاجأ السائل عن الأخبار والعائلة بتقويم مغاير لتقويمه وبتجديد للعقد، وقد اضطر المنسق أن يرفع صوته ليخبره بأنه ما من أحد يقترب منه، فالمقوّم الذي هو أنا يقوم بواجبه وزيادة!
وأذكر بالشكر الأستاذ الراحل ياسر عبد ربه الذي كنت أتواصل معه، وأشرح له تفاصيل عملي، عندما قال لي: يبدو أن هذا المنسق شخصية علمية مهمة، أجر معه حواراً وأرسله، وبالفعل أجريته وأرسلته ليكرمني يومها الأستاذ، ويكرّم المنسق بحوار في صفحات خمس في مجلة (الشهر).. فعرف المشرف أنني أحبه ولا علاقة لي بالثرثرات، واحتفظ بالود الذي قدمته له في هذا الحوار، ولم يستمع لرأي أحد.. وما إن غادر المنسق الأكاديمي المكان إلى مكان آخر حتى هرع هذا الدكتور الذي لا يتوقف عن السؤال عن العائلة إلى تكريس مكائده ضدي، وقد صار منسقاً، ولم يترك وسيلة يمكن أن تزعج أو تؤذي إلا اتبعها، ولكن القرض انتهى، وأصبحت في حلّ من أي التزام.
المهم أنني منذ ذلك اليوم، وأنا أخشى كل من يسأل عني وعن العائلة بود مفتعل! وخاصة إن كان يفرك يديه للدلالة على الود، ولم أعد أخدع بعبارات الصداقة والود من اللقاءات الأولى، وصارت عبارتي الملازمة عندما يسألني أحدهم عن أي شخص: إنه طيب حتى الآن، جيد حتى الآن! وأما استغراب السامع أضفت له تتمة لهذه العبارة: حتى أنا جيد حتى الآن، وقد لا أكون كذلك بعد لحظات! من أعرفهم استغربوا هذا القول، وهم يعرفون مقدار الحب الذي أحبه لأصدقائي، ولكن شتان بين أن تتعامل بحب لترتاح، وبين أن تفتح نفسك وأسرارك للآخر!!
هذا الرجل عاد إلى خاطري مجدداً، وهو الذي لم يتورع عن الأذية للجميع، مع أنه قضى عمره مسافراً بعقود من المحيط إلى الخليج، وحصّل من الأموال ما يعجز عنه مجموعة من الناس، واليوم أعيش معه في بقعة واحدة، وأشكر الله أنني لم ألتق به مرة واحدة منذ خمسة عشر عاماً، وهو الذي عاد ليستقر منذ عشر سنوات في دمشق، أحمد الله لا لشيء، إلا لخشيتي أن يعاود سؤاله لي عن العائلة الكريمة، ومن المؤكد أنه سيفعل وسيسأل!! وأنا سأجيبه حتماً..!
عاد إلى خاطري، وأنا أرى نماذج لا تحصى منه في كل مكان، فهذا الذي يقابلك ويقول لك، أنت الغالي، ولا أحد بمكانتك! ولكن وجود ذلك الرجل في الذاكرة جعلني حذراً مع هذا الذي يقول لي: أيها المحترم! حاولت أن أكون معه صادقاً، ولن بحذر، لأن المبالغة في الحب والسؤال والتوقير غالباً ما يتبعها ما لا يمكن أن تتخيله! فأحدهم الذي كان يتمنى رضاك، ويجلس إليك ساعات، ويرجو حضورك، يتحول فجأة إلى شخص مهم، ويتأفف لمجرد رؤية اسمك على شاشة هاتفه! وقد ينظر إلى من يجلس جواره، ليقول: هل وقتي يسمح لثرثراته؟! وإن تكرم عليك فإنه يسمح لأحد مجالسيه أن يقول لك: إنه غير موجود!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن