ربما خابت توقعات الكثير من المراقبين والمحللين، بأن سياسية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد الانتخابات الرئاسية وفوزه بها لن تكون كما قبلها، لجهة تغيير تعاطيه في مقاربة الأمور واتباعه قراءة جديدة للعديد من القضايا سواء علاقته بموسكو أم التطبيع مع دمشق، وخاصة أن الكثير برر توقعاته بأن أردوغان ما بعد الانتخابات سوف يكون في حالة انعتاق من هاجس الخسارة، وحلم البقاء في سدة الرئاسة لكون ولايته الحالية هي الأخيرة، وأن ذلك يعطيه الدفع والمبرر للإقدام على خطوات فيها شيء من الجرأة، وتسجل له لاحقاً على أنها إنجاز في سجل تاريخ حكمه لتركيا، لكن ماذا يجري الآن؟
في حقيقة الأمر فإن فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة جعلته ينقلب على الكثير من القضايا التي لم تغب عن تصريحاته وسياسته يوماً قبل الانتخابات، وفي مقدمتها التقارب مع دمشق، حيث سار على نهج التعبير عن أمانيه بلقاء الرئيس بشار الأسد، وتحديد مواعيد مستقبلية لأجل ذلك، لكن دون تقديم أي وعود أو تلميحات بإمكانية إنهاء احتلال قواته للأراضي السورية، بل على عكس ذلك فإن تصريحه في 17 الشهر الماضي قبيل زيارته السعودية ضمن جولة خليجية شملت قطر والإمارات أيضاً، وقوله: «الآن، مع الأسف، الأسد يريد أن تخرج تركيا من الشمال السوري، وهذا الأمر غير ممكن»، جاء بمنزلة نسف الجسر الواصل بين أنقرة ودمشق، وقلب طاولة التفاوض التي امتدت أشهراً طويلة تخللتها لقاءات أمنية وعسكرية ودبلوماسية مع الجانب السوري، ليأتي كلام وزير دفاعه يشار غولر السبت الماضي على المنوال ذاته وتأكيده أنه يستحيل انسحاب قوات بلاده من الشمال السوري، واصفاً الانسحاب قبل تأمين الحدود بـ«غير المعقول».
حديث التركي عن لقاء على مستوى مقام الرئاسة مع الجانب السوري، وكلامه المتكرر عن حرصه على التقارب مع دمشق، والادعاء أنه حريص كل الحرص على سيادة سورية ووحدة أراضيها، إنما يبقى «حديثاً أو نقاشاً بيزنطياً»، فالسيادة والاستقلال لأي بلد يعنيان انتفاء أي احتلال عن أراضيه، وهذا منطق ورؤية دمشق لحدوث أي لقاء مرتقب بين الرئيس الأسد وأردوغان، الأمر الذي أكده الرئيس الأسد مؤخراً في لقاء مع قناة «سكاي نيوز» بقوله: «هدفنا هو الانسحاب من الأراضي السورية على حين هدف أردوغان هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سورية، فلذلك لا يمكن أن يتم اللقاء تحت شروط أردوغان»، وعن ادعاء تركيا أن سبب احتلالها لأراض سورية هو محاربة الإرهاب قال الرئيس الأسد: «الحقيقة أن الإرهاب الموجود في سورية هو صناعة تركية، «جبهة النصرة»، «أحرار الشام» هي تسميات مختلفة لجهة واحدة كلها صناعة تركية، وتمّول حتى هذه اللحظة من تركيا، إذاً عن أي إرهاب يتحدث؟!».
قراءة الرفض التركي لعملية الانسحاب من الأراضي السورية، تنطلق من عاملين، الأول رفع سقف التفاوض مع الجانب السوري، ومحاولة للضغط على الوسيط الروسي لإعادة تنشيط مبادرته «حوار دمشق وأنقرة»، ولكسب نقاط أو الحصول على مكاسب في قضايا أخرى، وخاصة بعد أن أعادت أنقرة التقرّب من واشنطن عبر موافقتها على ضم السويد لحلف شمال الأطلسي الـ«ناتو» بعد توتر في العلاقة بسبب دعم واشنطن لميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد»، الأمر الذي أزعج الكرملين، وعليه فإن الإدارة التركية تستبق زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة والمتوقعة قبل نهاية الشهر الحالي، لرسم ملامح بعض نقاط وملفات الحوار، وفي مقدمتها الوضع في سورية إضافة إلى موضوع إعادة تصدير القمح.
العامل الثاني لجهة رفض أنقرة الانسحاب، ينصب في إطار سعيها إلى تمرير مشروع إعادة اللاجئين السوريين إلى تلك المناطق التي تحتلها، وإجراء عملية تغيير ديموغرافي للمنطقة عبر إقامة العديد من المشاريع السكنية على حساب أملاك السكان الأصليين وتوطين اللاجئين فيها، وبذلك تكون أنقرة حصلت على مبتغاها بإقامة «منطقة آمنة» عبر سور سكاني موال لها، لطالما عجزت عن فعل ذلك بالقوة العسكرية، كما كانت تهدد دائماً.