يبدو أن المشهد السياسي والعسكري في النيجر مازال قابلاً لأن يشهد المزيد من التطورات الدراماتيكية خلال المرحلة المقبلة، في ظل الارتدادات الجيواستراتيجية على مستوى القارتين الإفريقية والأوروبية على إثر ما أحدثه تولي المجلس العسكري بقيادة الجنرال عمر عبد الرحمن تياني للسلطة وإلقاء القبض على الرئيس المخلوع محمد بازوم واتهامه بالخيانة العظمى منذ أيام.
صحيح أن الحادثة السياسية والعسكرية التي شهدتها النيجر ليست الأولى من نوعها في القارة السمراء، إلا أن التوقيت السياسي الذي حصلت به هذه التطورات كانت في ظل عوامل عديدة جعلت من هذا التوقيت يحمل دلالات وأهمية لا يمكن تجاهلها على المستوى السياسي والعسكري في تحليل النظم، تتمثل أبرزها بـ:
– الصراع الدولي المتنامي ما بين الغرب ومؤسساته الليبرالية الهادفة للهيمنة على العالم والذي تم تكريسه بالقوة بعد الحرب الباردة، والدول الصاعدة المتمثلة في توجه روسيا الاتحادية والصين الشعبية وغيرها من الدول الساعية لتغيير طبيعة النظام الدولي وكسر الأحادية الدولية وتأثرها على الخريطة الدولية بما في ذلك الجغرافية الإفريقية، التي باتت تشكل اليوم أحد ساحات الصراع من حيث النفوذ والمصالح بين هذه القوى.
– فشل السياسات الفرنسية منذ حقبة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي من إحداث التغيير في التعامل مع الدول الإفريقية التي كانت تحت الوصاية الفرنسة، وارتفاع منسوب العنصرية في الخطاب السياسي للرئيس إيمانول ماكرون، والعمل على زيادة التغلغل الاستعماري من خلال التوسع العسكري المتذرع بمحاربة الإرهاب والذي أدى بين عامي 2010-2021م لمقتل أكثر من 11 ألف إفريقي، وفق إحدى الدراسات التي أعدها المركز الأوروبي لمحاربة الإرهاب.
– ارتفاع المستوى العلمي للأجيال الإفريقية الجديدة ورغبتها في التخلص من تبعات نظام الوصاية ولاسيما الفرنسية منها، والتي سعت خلال السنوات الماضية إلى تبني سياسات اقتصادية وسياسية وعسكرية أدت لسرقة الموارد والثروات الوطنية لهذه الدول وزادت من نسبة تردي الأوضاع المعيشية والأمنية.
انقلاب النيجر أظهر حقيقة الانقسام الحاد الحاصل ضمن مجموعة «إيكواس»، وهي مجموعة اقتصادية تم تشكيلها في عام 1975 بين خمس عشرة دولة غربي إفريقيا لتكون على غرار الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالتعامل مع تطورات الأوضاع في النيجر، ولكنها في المقابل عكست عدم قدرة فرنسا على شن عمليات عسكرية تحافظ من خلالها على مصالحها ونفوذها داخل الإطار الإفريقي، وخاصة في الساحل الإفريقي.
تدور أبرز السيناريوهات المتوقعة لتطور الأزمة في النيجر بعد حصول عدة اجتماعات لهذه المجموعة الاقتصادية، وعجز مجلس الأمن والسلم الإفريقي لتجميد عضوية النيجر، بين ثلاثة مسارات:
– المسار الأول هو إقدام مجموعة «إيكواس» للتدخل العسكري بدعم فرنسي، إلا أن مثل هذا السيناريو يعتريه الكثير من التحديات وسيكون له تداعيات خطيرة تتعدى القارة الإفريقية وخاصة في ظل ما يشهده النظام الدولي من توازن للقوى ووقوف كل من روسيا والصين والهند إلى جانب المجلس العسكري ورفضهم لأي تدخل عسكري خارجي، إضافة إلى قابلية انتقال هذا العمل العسكري نحو العديد من الدول المجاورة.
– السيناريو الثاني وهو الأكثر ترجيحاً، سيكون من خلال الاستمرار بالتلويح بالخيار العسكري من قبل بعض دول «إيكواس» واتباع سياسة «الحرب بالوكالة» عبر تغذية الأطراف الرافضة لسيطرة المجلس الوطني العسكري بالأسلحة والأموال، وهو ما قد يخلق واقع فوضى واستنزاف بالتزامن مع فرض حصار اقتصادي وقطع المساعدات الاقتصادية على النيجر من قبل فرنسا والدول الغربية.
– السيناريو الثالث يكمن في تسليم الجميع بالأمر الواقع وهو سيناريو غير وارد، لكون حصول ذلك يعني إقدام المزيد من القوى داخل الدول الإفريقية على اتباع سياسة الانقلابات العسكرية بهدف التخلص من الوصاية الفرنسية والغربية على مقدرات إفريقيا وثرواتها.
لذلك فإن الخيار العسكري رغم التلويح به فهو مستبعد، والدليل على ذلك تهديد دول «إيكواس» بشن عملية عسكرية منذ اجتماعهم الذي حصل في ٣٠ تموز الماضي والمهلة التي منحت للمجلس العسكري للتخلي عن السلطة وإعادة الأمور لنصابها، وأبرز الدلائل على استبعاد الخيار العسكري تكمن في:
أولاً_ أسباب سياسية: الانقسام الذي تشهده دول «إيكواس» حول هذا الخيار، إذ تنقسم هذه الدول بين ثلاثة اتجاهات، اتجاه يؤيد الخيار العسكري وبخاصة نيجيريا والسنغال نتيجة تعبير هذه الدول عن المصالح الأوروبية عموماً والمصالح الفرنسية خصوصاً في القارة الإفريقية والخشية من ارتداد هذه الانقلابات عليها. واتجاه ثاني يمانع حصول العمليات العسكرية وهذا تمثله عدة دول في مقدمتهم مالي وبوركينا فاسو، واتجاه ثالث من الدول التي تعتريها ضبابية في الموقف من الأزمة.
ثانياً- أسباب اقتصادية تتجلى في عدم قدرة ورغبة معظم الدول الإفريقية بتحمل تكاليف أي عمل عسكري في ظل تراجع معدلات التنمية واتساع حجم الأزمات مثل أزمة الغذاء، إذ وعلى الرغم مما شهدته بعض الحالات السابقة من تدخل عسكري لدول «إيكواس» بها، كما حصل في مالي وبوركينا فاسو، فإن هذا التدخل تحملت نيجيريا ٩٠ بالمئة من تكلفته المادية للحفاظ على مصالحها وأهدافها ودورها الإفريقي.
ثالثاً- أسباب عسكرية لكون الأزمة في النيجر قد تشكل إحدى ساحات الصراع بين الدول الكبرى التي تتصارع اليوم بشكل متنامٍ لتحقيق مصالحها الجيواستراتيجية.