«لا أعرِفُ كيفَ يُمكِنُ للكِاتبِ أن يَكتُبَ الآن شيئاً عن أيّ قَضيةٍ لا صِلةَ لها بِشِدّةِ التضاؤل في قُدرةِ الأغلبية السّوريّةِ على الاستٍمرارِ في العَيشْ». بهذه الكلمات افتتح الروائي والشاعر السوري الكبير أحمد يوسف داود مقاله في موقع (سيريا هوم نيوز)، وأنا لا أختلف مع الأستاذ أحمد بشأن «تضاؤل قدرتنا كسوريين على العيش)، إلا أنني لن أتوقف عند إدارة الحكومة للمعضلة الوطنية التي نعيشها، رغم قناعتي أنها جزء عضوي منها.
قبل أيام قرأت خبراً أقلقني أكثر من زيادة الأسعار وفجور التجار، صحيح أن الأمر قد يبدو بعيداً عن جذر معاناتنا و«تضاؤل قدرتنا» لكنه بقناعتي أحد أسبابها العميقة، فالأخبار الواردة من الطبقة تفيد أنه تم حتى الآن «استنزاف 3.5 مليارات متر مكعب من المخزون الإستراتيجي لسد الفرات» بسبب عدم التزام نظام أردوغان باتفاقية المياه الموقعة بين بلدينا والتي تنص على أن تضمن السلطات التركية تدفق 500 متر مكعب من الماء في الثانية، لكن الكمية التي تصل إلى سورية حالياً لا تتجاوز 200 متر مكعب في الثانية لأن تركيا أقامت خمسة سدود عملاقة على نهر الفرات وما تزال الأعمال جارية في بناء سدين آخرين. وبسبب انخفاض منسوب المياه في بحيرة سد الفرات تم إيقاف ست عنفات من أصل ثمان ويتم تشغيل العنفتين الباقيتين بنصف الحمولة!
أقلقتني هذه المعلومات ولما توسعت في البحث تبين لي أن منسوب الماء في بحيرتي سدي تشرين والفرات يقترب «من المنسوب الميت» الذي يعني قرب إيقاف تشغيلهما، وهذه كارثة متعددة الرؤوس من شأنها في حال وقوعها أن تؤدي لخروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عن الخدمة.
عندما يرد اسم سد الفرات يقفز إلى الذاكرة اسم الصديق النبيل عبد الفتاح عثمان الذي ستمر الذكرى الرابعة لرحيله يوم غد الإثنين.
التقيت الصديق عبد الفتاح عثمان لأول مرة في مكتب العلاقات العامة للسد، وقد استوقفتني ثقافته الواسعة وطلاقة لسانه ودرايته العميقة بالشعر ولطفه الأصيل، فتح أحد الكتيبات على صفحة ما، وأشار، مبتسماً، إلى نص يمتاز بأسلوب طلي أقرب إلى الأدب:
(في الخامس من تموز 1973 دخل نهر الفرات إلى المدرسة من جديد، ليتعلم كيف يقرأ وكيف يكتب، وكيف يمارس الحب مع الحقول والأشجار بطريقة عصرية… وعلى باب المدرسة نزع السيد الرئيس حافظ الأسد عن الفرات عباءته الطينية، وقص له شعره الأشعث، وأظافره الطويلة، وأعطاه قلماً… ودفتراً ودواة حبرٍ أخضر.. ليكتب يومياته كنهر متحضِّر».
لن أنسى ما حييت الطريقة الحميمة والفخورة التي كان يتكلم بها عبد الفتاح عثمان عن السد كما لو أنه صاحبه أو أحد أفراد أسرته، فعندما نزلنا اثني عشر طابقاً في المصعد داخل جسم السد، قادني إلى بقعة يصدر منها دوي هائل. قال: «هذا بئر العنفة. نحن الآن على عمق 60 متراً تحت سطح ماء البحيرة». وبعد لحظات من الصمت ابتسم وقال: «عندما زارنا الشاعر السوري الكبير نزار قباني، أنزلته إلى هنا، وقلت له مداعباً: «الآن يمكنك أن تكتب قصيدة من تحت الماء». فابتسم نزار قباني وقال: «هنا، بالفعل، تكتب القصائد الحقيقية التي يتجسد فيها طموح الإنسان».
تحية لذكرى كل من الشاعر الكبير نزار قباني والإنسان النبيل العزيز عبد الفتاح عثمان.