ثقافة وفن

حين يطل بدوي الجبل ليتغزل بالشام بعد عقود … الشاعر الذي عاش حياته انتماء وحباً ولم يتبدل في هواه

| إسماعيل مروة

في الصيف غادر وتركنا للحياة بحرّها وبردها، أودعنا أغنياته الشامية الباقية ما بقيت العربية، الشام مهبط قلبه وروحه، عاش فيها ولها وبها، تعشقها بكله وإن كان بعيداً عنها في منفاه الإجباري أو غربته الاختيارية.. كان بدوياً أصالة، وكان جبلاً شموخاً وصلابة شعر وتجذراً..

في مثل هذه الأيام غادر محمد سليمان الأحمد «بدوي الجبل» الأرض، وفي الشام كان وداعه ليغادر الشام محفوفاً بقلوب محبيه ومريديه ومرددي شعره على الدوام.

هدهد همومه طويلاً، زرع آهاته في الشام التي أعطته ما أعطاها، وزادت في كرمها وتكريمه وهو المستحق، غادرها وبعد عقود تعيد الشام الألق إلى شعره وديوانه، تحتفي به وتعيد نشر ديوانه على نطاق واسع.

الشام درته

في ديوانه الضخم لا تخلو قصيدة أو صفحة من الحديث عن الشام، وكان هذا الاسم هو الأقرب إلى ذاته من الأسماء الأخرى الشائعة للمدينة، وكأنه رضع هذا الاسم الباقي في السلّاطة حيث ولد، ودفعه الحليب وأصالته إلى الشام ليعطيها درره:

تطوحني الأسفار شرقاً ومغربا
ولكن قلبي في الشآم مقيم
ويا ربّ تدري الشام أني أحبها
وأفنى وحبي للشآم يدوم

وكان ولهه بالشام أكبر من أن يوصف، فعلى الرغم من نفيه وابتعاده بقي على حبه لوطنه، وكأنه كان يسمع اللوم، لكنه لم يتخلّ بل دافع عن حب المحب:

لا تلمه إذا أحب الشآما
طابت الشام مربعاً ومقاما
ما رأينا الشام إلا رأينا
منزلاً طيباً وأهلاً كراما
هات حدث عن الشام وحدّث
وأطل في الحديث عنها الكلاما

دفاع عن الشام

بدوي الجبل الوفي بلا منّة، الأصيل بلا تحيّز، لم تكن الشام عنده مدينة ومسكناً، بل كانت الملاذ والرمز، لا يقبل في حبه لها لوماً، بل ينبري للدفاع عن الشام وعن محبيها، ويستعمل فعل «زعموا» والزعم له دلالاته:

قد زعموا أني بجلق هائم
أجل، والهوى إني بجلق هائم
وفيت بعهد الغوطتين وهذه
شهودي القوافي والدموع السواجم
وأصفيت أبناء الشآم مودتي
صغيراً وما نيطت عليَّ التمائم

يقسم الشاعر بالهوى للدلالة على هيامه بالشام، وهذا الهوى ليس جديداً، فهو من قبل أن يعرف التمائم، وهواه ليس للمكان وحده، بل للإنسان والمكان والجمال المتمثل بالغوطة.

وحين نقرأ الشام عند بدوي الجبل يستحي المرء أن يتحدث عنه، فللحق إن كل ما يقال عن البدوي وشعره لا يتعدى أن يكون حواشي تدور في فلك قصائده وشعره، وصديق عمره أكرم زعيتر قدم لديوانه بدراسة طويلة، وهي على أهميتها، ومع القيمة النقدية والتاريخية للأستاذ زعيتر كانت تدور لتؤرخ للحظة الشعرية التي كان عليها البدوي.

الشام والحب والمواقف

كانت الشام عند بدوي الجبل المكان الذي ألفه وأحبه، والتاريخ الذي أحبه بدلالاته ورمزيته، والموقف الذي يعبر عنه سواء كان الموقف سياسياً أم فكرياً أو تجاه الآخرين، وكأن الشام كانت أمه، وقد حرم حنان الأم مبكراً، فكان يلجأ إليها لتستقبل عنه الألم، وتعطيه جرعة من أمل وتفاؤل، بل أعطته القدرة على تحدي الحياة، ولننظر إلى ما قاله في إحدى روائعه عن الشام وكل روائعه لها:

حلفت بالشام هذا القلب ما همدا
عندي بقايا من الجمر الذي اتقدا
لثمت فيها الأديم السمح فالتهبت
مراشف الغيد من حصبائها حسدا
وجه الشآم الذي رفت بشاشته
من النعيم لغير الله ما سجدا
دع الشآم فجيش الله حارسها
من يقحم الغاب يلق الضيغم الحردا
ضمتني الشام بعد النأي حانية
كالأم تحضن بعد الفرقة الولدا
أنا الوفي وتأبى العز من شيمي
كفران نعمة من أسدى إليَّ يدا

ففي كل كلمة موقف وحب وانتماء، الأديم السمح، ما همدا، مراشف الغيد، لغير الله ما سجدا، دع الشآم، من أسدى إليه يدا.

فالبدوي في غربته ونفيه حاولوا تقليب روحه على الشام وأهله، لكنه الوفي الذي يحتفظ لأهله ووطنه ما كان من قبل، والوفاء طبع لا يقبل أن يغدر أو يكفر.

بدوي والغزل

برع البدوي في شعر الوطن وحبه، وقد يكون من الشعراء النادرين الذين برعوا في ملامسة شغاف القلب والروح في شعره الغزلي، وفي غزله صدٌّ وإقبال، لقاء وهجران، غضب ورضا، ولكنه في كل حال من الأحوال كان شاعر تجربة، وشاعر صورة من النادر أن يحملها شاعر آخر، فطارت غزلياته لتصبح نغماً فيروزياً ساحراً، والمقربون القريبون من البدوي يعرفون طرافة غزله وأصالته.

هدهد همومك عندي على حيائي وصدي
حور النعيم تمنّت نعمى هواي ووجدي
يا ساكب الشعر خمراً من شعر ربك خدّي
ومن معانيه عطري ومن قوافيه وردي
شقراء يا لون حسنٍ محبّب مستبد
ويا جمالاً غريباً على ظباء معدّ
لا وسم لبلاي فيه ولا ملامح هندي
ولا اسمرار الغريرا ت بالعقيق ونجد
ظمآن أنشد ورداً وعند عينيك وردي
الحب لا حكم شورى لكنه حكم فرد

البدوي والقامات

من محاسن الشعراء الكبار الوقوف عند القامات للحديث عنها، وبدوي الجبل شاعر الوفاء الكبير يقف عندهم من المعري الكبير، إلى أحمد شوقي، إلى استاذه وصديقه الشيخ النحوي مصطفى الغلاييني صاحب كتاب «جامع الدروس العربية» ولننظر إلى براعته وأدبه وتناوله للمعري:

حَلِي النديّ كرامة للراح
عجباً أتُسكرنا وأنت الصاحي
أعمى تلفتت العصور فما رأت
عند الشموس كنوره اللمّاح
نفذت بصيرته لأسرار الدجى
فتبرحت منها بألف صباح
من راح يحمل في جوانحه الضحى
هانت عليه أشعة المصباح
أمصوّر الدنيا جحيماً فائراً
يرمي العصور بجمره اللفّاح
هون عليك ففي النفوس بقية
من رحمهِ ومروءة وسماحِ

وعند الحديث عن أحمد شوقي، فإن الكثيرين من الشعراء يحاولون ألا يعطوه حقه، ولكن البدوي الشاعر الكبير الذي يعرف الشعراء ويعطيهم القيمة الحقيقية أسبغ على شوقي صفة لا يشاركه فيها أحد من الشعراء في نظره وهي صفة الخلود:

لا الأمس يسلبك الخلود ولا الغد
هيهات أنت على الزمان مخلّد
لك من خيالك عالم متناسق
بهِج تعاود خلقه وتردد
يا شاعر الدنيا لقد أسكرتها
ماذا تغنيها وما تنشد؟
فاذهب كما ذهب الربيع على الربا
منه يدٌ وعلى القلوب له يدُ
ولك الإمارة في البيان يقرّها
أمس الزمان ولا يضيق بها الغد

بدوي القامة الوطنية

روى الأستاذ الدكتور عدنان درويش رحمه الله بأنه كان طالباً في القاهرة، والعميد طه حسين يلقي محاضرات عن الشعراء في سورية، ولم يأت على ذكر البدوي، وعندما خرج من القاعة سأله عدنان درويش لِمَ لم تذكر بدوي الجبل أستاذنا؟ فكان جواب طه حسين: هذا الشاعر جبل ودع الجبال وحدها.. ويتابع بأن طه حسين أفرد للبدوي وحده محاضرة وأكثر، فهو من الشعراء الذين حملوا اسم سورية عالياً.

وذكر ابن اخته الراحل د. هاني صالح حادثة موثقة، فقال: كنت أدرس في النمسا وكان خالي البدوي هناك، ودعي إلى أمسية خارج النمسا، وكان جواز سفره منتهياً وهو منفي، فأشير عليه أن يسافر بجوازه التونسي الذي منح له، فرفض واعتذر عن السفر بغير جوازه السوري فقامت السفارة السورية بتجديده مباشرة لشاعر لم يحمل غير هوية وطنه.

الرمز والتاريخ

في كثير من الشعر يقف البدوي عند الرمز القوي، والشام عنده ارتبطت بالدولة الأموية، وهاهو ينشدها شعراً من النسق الأعلى، يبقى على الزمن، ليقول لنا، إن الرموز لا يمكن الاختلاف عليها.

ويا رب عزّ من أمية لا انطوى
ويا رب نور وهج الشرق لا خبا

رحيله ووصيته

قال عنه نزار قباني: «بدوي الجبل السيف اليماني الوحيد المعلق على جدار الشعر العربي، في حنجرته ألف لبيد وألف شريف رضي وألف أبي تمام» فهو الشاعر الذي عنده ألف صوت من أصالة لبيد، وألف صوت من انتماء الشريف الرضي ونقابته، وألف صوت من أبي تمام وصنعته.

حين أتعبه المرض كانت الدنيا مفتوحة على مصاريعها ليذهب للاستشفاء، وها هو يردّ على رسالة أرسلها له صديقه شاعر الشام شفيق جبري تدل دلالة مطلقة على انتمائه وحبه وتضحيته.

«سأموت هنا في أرض الشام، لن أغادرها، ولن أسافر بعد الآن مهما حدث لي في وطني، أخف عليّ من جنة الغرباء، وكم أودّ أن أعيش بعيداً عن كل شيء إلا عن الشام».

ذكراك تمر أيها الشاعر الكبير، ونحن أحوج ما نكون إلى رمزيتك وقد لا يكفي أن ندلف إلى «منزل بدوي الجبل وأحبابه» أو أن نقف أمامك في السلّاطة إلى جوار أستاذك ووالدك الرمز.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن