ثقافة وفن

حنا مينة تحدث بلسان البسطاء والفقراء والبحر والمرأة … ليس لي أهل لأن أهلي جميعاً لم يعرفوا من أنا في حياتي

| مصعب أيوب

البحر أنا فيه ولدت وفيه أرغب أن أموت، تعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً؟

تلك هي كلمات الروائي السوري حنا مينة الذي تحل اليوم ذكرى رحيله الخامسة، فقد أرّخ مينة تفاصيل الحياة اليومية في الحارات الشعبية وفي البحر الذي اختص في الكتابة عنه وعن تفاصيله التي بدت جلية في معظم أعماله، واستطاع الاقتراب من الناس من خلال كتاباته لأنه اسقط صدى الواقع المعيش خالقاً بذلك وعياً جديداً لدى فئات مجتمعية عدة من خلال القيم الحياتية التي عاينها في حياته، وقد أشاد كثيرون بأعماله وإبداعاته ومصداقيتها وجرأتها وتفرده في نسج عوالم البحر التي اختزنها في ذاكرته.

طفولة بائسة

حنا مينة من مواليد آذار 1924 في مدينة اللاذقية وترعرع في حي المستنقع الذي يتبع للواء إسكندرون سابقاً قبل أن تضمه تركيا، وقد توقف عن الدراسة بعد انتهائه من المرحلة الابتدائية بسبب الفقر الشديد الذي كانت عليه أسرته، حيث لم يكن لوالده عمل ثابت يعتاش منه، فتارة كان يعمل حمالاً في المرفأ، وتارة بائعاً للحلوى وأخرى مزارعاً وكانت الكنيسة تقدم لأسرته المساعدات في ذلك الوقت، ما اضطر مينة للعمل في فترة الطفولة المبكرة للتخفيف من العبء على والده.

كبر حنا في الرمل والبحر والحبر وراحت مواهبه تتجلى للعيان شيئاً فشيئاً، صنعته الحياة قبل أن يصوغها أدباً فانقطع عن الدراسة مبكراً وانخرط في مهن عدة قبل أن يبدأ بكتابة المقالات.

بداية الإبداع

أكل الفقر من جنباته، فعمل في مهن عديدة قاسية وهي ما أعطاه قوة داخلية لمواجهة التحديات، وكانت بداياته في الكتابة والتأليف على الأكياس، وقد حوله الفقر وسوء التغذية إلى طفل نحيل وهو ما أعاق عمله في حمل مواد البناء، وعندما أراد صاحب العمل الذي التحق به أن يكتب على أكياس القمح استعان بحنا، فقد جعل أعماله مساحة للتعبير عن الصراع الطبقي، وجل من يقرأ أعماله يمكنه أن يتحسس الكم الهائل من البؤس والفقر والحسرات فيها.

جلس مع الصيادين وتأمل موج البحر العارم فهو ابن البحر والصيادين ونذر حياته للموج والماء المالح والرمال البحرية وللبسطاء والفقراء فكانت معظم أعماله مبللة بموج مياه البحر الصاخب الذي كان مصدر إلهامه.

نصير البسطاء

تدرج في كتابة العرائض للحكومة وثم في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف السورية واللبنانية وبعد ذلك تطور به الأمر لكتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة ومسلسلات إذاعية باللغة العامية فكانت أعماله تتسم بالواقعية والأسلوب السردي السلس وأوجد فيها شخصيات مألوفة للقراء ومستمدة من المجتمع المحلي ويكاد يألفها الجميع، وعرض الكثير من القضايا الاجتماعية وضع بموجبها حياة الفقراء والبسطاء والمضطهدين تحت المجهر متحدثاً عن كفاح الناس ومعاناتهم والصراعات والفساد والظلم، ولم ينس مينة بطبيعة الحال المرأة التي كانت جزءاً مفصلياً من شخصيات رواياته وحضرت فيها كرمز للقوة والإرادة.

محطات

ساهم مينة في تأسيس رابطة الكتّاب السوريين 1951 واتحاد الكتّاب العرب عام 1969.

بعد استقلال سورية والخروج من نير الاحتلال الفرنسي عام 1946، عمل في جريدة الإنشاء الدمشقية، ثم صار رئيس تحريرها، وتابع كتابة القصص القصيرة والمسرحيات والروايات التي تحولت كثيرات منها إلى نصوص سينمائية.

وكانت روايته «المصابيح الزرق» من أولى رواياته الأدبية الطويلة، وكتبها عام 1954، تحولت إلى عمل درامي سوري. وخصص روايات عديدة للبحر الذي كان مصدر إلهام وعشق له.

أريد أن أموت بسيطاً

مما جاء في وصية الراحل: «لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.. عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية. كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي من أجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض».

شيخ الروائيين العرب

ترك حنا مينة بصمة واضحة وأثراً كبيراً في الرواية العربية حتى أصبح مشهوراً بشيخ الروائيين وتحولت بعض كتاباته إلى أعمال درامية وسينمائية مثل (نهاية رجل شجاع) التي قدمت على شكل مسلسل تلفزيوني و(الشمس في يوم غائم) التي تحولت إلى فيلم سينمائي و(بقايا صور) التي تحولت إلى فيلم من إخراج نبيل المالح..

ومن أبرز أعماله التي تجاوزت 40 رواية، (رواية المصابيح الزرق، الشراع والعاصفة، الياطر، الأبنوسة البيضاء، حكاية بحار، نهاية رجل شجاع، الثلج يأتي من النافذة، الشمس في يوم غائم، بقايا صور، القطاف، الربيع والخريف، حمامة زرقاء في السحب، الولاعة، فوق الجبل وتحت الثلج، مأساة ديميترو، المغامرة الأخيرة، والمرأة ذات الثوب الأسود).

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن