صفحة مجيدة من تاريخنا الوطني … قصة شهداء 21 آب 1915 شقيقان أعدما في اللحظة نفسها .. أقلّ من عام يفصل بينهم وبين شهداء السادس من أيار
| نبيل تللو
يحيي السوريون في يوم السادس من شهر أيار كلَّ سنةٍ ذكرى استشهاد كوكبة من أبناء الوطن المناضلين ضدَّ المحتلِّين العثمانيين الأتراك، الذين أعدمهم الحاكم العسكري لسورية جمال باشا، الذي لقَّبه السوريون بـ«السفاح» لشدة بطشه وبأسه بالرجال الوطنيين، ومع أهمية هذه الذكرى في تاريخ سورية الحديث، إلا أن كوكبة أخرى من الرجال الوطنيين سبقتهم قبل أقلَّ من سنةٍ لنيل شرف الشهادة على يد هذا الحاكم التركي الظالم، الذي أعدمهم في بيروت بتاريخ الحادي والعشرين من شهر آب سنة 1915، مع أنَّ الظروف المحيطة بعمليتي الإعدام واحدة، والسبب واحدٌ، سوى أنَّ عملية الإعدام الثانية جرت بدمشق، التي كانت مركزاً للنضال الوطني ضِدَّ الأتراك. وحِرصاً إلى إعطاء هذه المجموعة من الشهداء حقَّها بضرورة إحياء ذكراهم وإعلاء شأنهم والتذكير بمناقبهم.
تركيا والحرب العالمية
كان لإعلان الحرب العالمية الأولى سنة 1914، ودخول تركيا الحرب مع ألمانيا، واتهام بعض القادة العرب بالاتصال بإنكلترا وفرنسا المناوئتين لتركيا، فرصة لأعضاء جمعية الاتحاد والترقِّي التركية لفرض سياسة البطش على الأصعدة كافة، وذلك عن طريق والي سورية التركي وقائد القوات العثمانية فيها جمال باشا السفاح.
ففي شهر أيار سنة 1915 ضبط جواسيس جمال باشا في قنصليتي بريطانيا وفرنسا في بيروت قوائم بأسماء الحركة الوطنية في سورية ولبنان والعراق وفلسطين ومصر، كان القنصلان البريطاني والفرنسي قد أغفلا حرقها لدى إغلاق القنصليتين بعد دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا. وفي شهر حزيران فوجئ الناس بأنباء اعتقال السيد عبد الكريم الخليل ومجموعةٍ كبيرة من الوطنيين، الذين قُدِّموا للمحاكمة أمام الديوان العرفي في عاليه شرق بيروت، التي وجَّهت لهم تهم الخيانة العظمى، وأصدرت بحقِّهم أحكاماً بالإعدام شنقاً.
في فجر يوم 21/ 8/ 1915 نُقِلَ هؤلاء الرجال الوطنيون بالعربات من سجن عاليه إلى دائرة الشرطة في بيروت، فأدركوا مصيرهم المحتوم. وفي دائرة الشرطة أُدخلوا إلى قاعةٍ واسعة، فكتبوا وصاياهم، وهي آخر ما أملتهم عليهم الوطنية والعاطفة قبل دنو الموت الرهيب.
وفي الساعة الثالثة صباحاً حانت ساعة الإعدام، وجاء الجند وأخرجوا المحكومين اثنين بعد اثنين إلى ساحة «البرج» وسط بيروت، حيث نُصِبت منصَّات الإعدام، وكانت كلُّ جهاتها مطوَّقة بالجنود.
جرأة الشهداء
وكان أول من اقتيد إلى المشنقة السيد عبد الكريم الخليل، رئيس المنتدى الأدبي، فكان أجرأ الشهداء، وسار إلى المنصَّة بخطا وئيدة من دون مبالاة، وكأنَّه يهزأ بجمال باشا وديوانه العرفي في هذا الحكم الانتقامي بقوله: «يا أبناء أمتي وأهل بلادي، يريد الأتراك أن يخنقوا أصوات حريتنا في صدورنا، ولكننا سنتكلم، إننا أمة تريد الاستقلال وتسعى للخلاص من نير الأتراك، أنت يا أرض الوطن احفظي تذكارنا، وأنت يا سماء بلادي احملي إلى كلِّ سوري وإلى كلِّ عربي سلام الشهداء وقولي لهم: إننا عشنا من أجل الاستقلال، وها نحن نموت في سبيل الاستقلال».
ثم جيء بالأخوين محمد ومحمود المحمصاني، واقتيدا إلى أمام المشنقة، فتعانقا طويلاً، وصعدا إلى المشنقة بثغرٍ باسم، وكلٌّ منهما يحدِّق بأخيه ويودِّعه الوداع الأخير، وطلب محمد من الجلاد أن ينفِّذ فيه وبأخيه حكم الإعدام بلحظةٍ واحدة، كيلا يتعذَّب أحدهما بمرأى شقيقه يحشرج أنفاسه أمامه.
قائمة الشهداء
ثم جيء بالسادة عبد القادر الخرساء ونور الدين القاضي وسليم أحمد عبد الهادي ومحمود نجا عجم ومحمد سليم عابدين ونايف سليم تللو وصالح أسعد حيدر وعلي محمد الأرمنازي وعبد اللـه الظاهر ويوسف الهاني. أما السيدان سعيد الكرمي وحافظ سعيد فلم يُنفَّذ فيهما حكم الإعدام لتقدمهما بالسن.
وما كادت الساعة تبلغ الرابعة صباحاً، حتَّى كانت عملية الإعدام قد تمَّت، وصعدت أرواح هؤلاء الشهداء المجاهدين الثلاثة عشر إلى منازل الخلود، ولبست البلاد أثواب الحِداد على شهدائها الأبرار، ثمَّ أُنزلت الجثامين عن المنصات، وجيء بإحدى عشرة عربة، ووُضِعت كلُّ جثة في واحدة منها يخفرها شرطيان، ونُقِلت كلها إلى المقبرة، وأقامت السلطة حراساً على القبور.
وفي يوم السادس من أيار سنة 1916 أعدم جمال باشا السفاح ثلاثة عشر رجلاً وطنياً في ساحة البرج في بيروت، وسبعة في ساحة المرجة وسط دمشق، ومنذ ذاك التاريخ أطلق على كلتا الساحتين اسم: «ساحة الشهداء»، تخليداً لذكراهم العطرة، ونبراساً للأجيال القادمة.
وإذا كانت هذه الذكرى تمرُّ علينا سريعاً وتتجاوزنا في هذه الأيام، إلا أنَّها لا تزال راسخةً في بطون كتبٍ عديدة أرَّخت لهذه الفترة على لسان شهودٍ عيان، ومنها كتاب: «شهداء الحرب العالمية الكبرى»، تأليف: أدهم الـالجندي، نُشِرَ سنة 1960.