جبرا إبراهيم جبرا، الكاتب والقاص والناقد والمترجم الموسوعي في ثقافتنا العربية المعاصرة، صديق عبد الرحمن منيف وشريكه في تجربة كتابة روائية مشتركة، وصاحب المجموعة القصصية المتفردة «عرق.. وقصص أخرى».
الكاتب والناقد الفلسطيني اليساري الثائر، الذي غضب من ترف نزار قباني وموضوعاته الشعرية في ديوانه «قالت الي السمراء» وكتب نقداً قاسياً له إذ كيف يكتب شاعر ديوان غزل، وبإخراج مترف وفلسطين في قلب نكبتها والاحتلال يتكالب عليها، جبرا عندما خرج من فلسطين، وكان مشظى بين بيروت ودمشق وبغداد عرف الجوهر الذي كان غائباً عنه، فكتب دراسة طويلة ينصف فيها نزار قباني، ويعتذر عما كتبه من قبل، ونشره في الدوريات، وفي واحد من كتبه، وكان ضمن الكتاب التكريمي الذي صدر بعيد ميلاد نزار قباني السبعين «نزار قباني شاعر لكل الأجيال» الصادر عن دار سعاد الصباح في الكويت.
في هذه الدراسة هزّ جبرا الوسط النقدي، إذ اعترف بأن نزار قباني الذي لم يحمل أيديولوجيا اليمين أو اليسار كما هو، كان أكثر قرباً من المجتمع، وفهم أن المرأة هي الجزء الأكبر في المجتمع، ولن يكون المجتمع حراً متقدماً وقوياً إلا بحرية المرأة، ورأى جبرا أن مجمل ما تمت معالجته في الديوان المذكور هو من الأمور التي كانت ستسهم بتغيير مجتمعي، وبتحضير وقوة.
قليلون هم المؤدلجون الذين يعترفون بالخطأ ويفعلون ما فعله جبرا إبراهيم جبرا، ولكنه أقدم على ذلك لأنه ناقد عارف، ولأنه دخل في بواطن الأمور، ومن هنا تميز أدب جبرا وإنتاجه عن غيره من الكتّاب العرب والفلسطينيين في مراحل لاحقة، وكان علامة مختلفة عن السائد.
ترى لو كان جبرا اليوم على قيد الحياة فهل سيتغير رأيه؟ هل سيكتب اعتذاراً جديداً ممن انتقد فهمهم للحياة؟ وهل سيكون وراء أيديولوجيا تسلبه معنى الحياة كما فهمها فيما بعد؟
يبدو أن جبرا ومن خلال تجواله الكبير بين الآداب العالمية والترجمة وصل إلى قناعات راسخة في الحياة، واستنتج استنتاجات غاية في القيمة فيما يخص رحلة الإنسان ودائرة اهتمامه، وقد سطر ذلك في أدبه ومقالاته ورؤاه، إذ يكتشف المبدع جبرا جوهر الحياة، هذا الجوهر الذي لم يستطع الكثيرون الوصول إليه بعد أعمار طويلة فهل الحياة تقتصر على التفوق الدراسي والسير في خط واحد لا يحيد عنه المتفوق؟ هناك أناس يحيون بهذه الطريقة ولهم مطامحهم العلمية ويقدمون الإنجازات.. وهل الحياة هي جمع واكتناز لأموال بشتى السبل؟ هناك أناس يفعلون ذلك، وعندما يرحلون يقولون عنهم: عاش فقيراً ومات غنياً!! وهل الحياة سيطرة وهيمنة على الآخرين؟ هناك من يفعل ذلك، ولكنَّ كل ما يفعله يذهب أدراج الرياح ذات لحظة، وكأنه لم يكن!!
أرسل لي من أحترمه مقطعاً من كتابات جبرا وتأملاته، كنت قد قرأتها، لكنها ضاعت في ثنايا الحياة والذاكرة، ولكنني ما إن قرأتها حتى عادت إليّ صورة الروائي عبد الرحمن منيف في دمشق، وصورة فاتح مدرس، وصورة كل المبدعين الذين فهموا الحياة على مزاجهم الإبداعي، وقد يحلو لبعضهم أن يصفهم بالفوضوية أو ما شابه، لكن ذلك ليس صحيحاً، فهؤلاء مبدعون، وبعضهم ينتمي إلى أيديولوجيا في اليمين أو اليسار أو القومية، ولكنهم عاشوا الحياة بطرائق راقية، هم لا يدعون إلى الابتعاد عن العلم لمصلحة الأدب، ولا التخلي عن المسار العلمي إكراماً للفنون، بل الدعوة التي أرادوها إضافة إلى التخصص هي فهم الحياة حق الفهم، فالحياة ليست مسيرة واحدة باتجاه واحد، الحياة في أن تكون لك طقوس خاصة، فقد تكون سياسياً أو عالماً، وهذا لك، لكن الطقوس مع ذلك هي الحياة يقول جبرا: «أنا لا أفهم هؤلاء الناس الذين بلا طقوس شخصية، بلا عادات بلا تفاصيل، لا يهتمون بلون الأزرار ولا خشب المقاعد، ويرضون بأي سائل ساخن أحمر، فلا يتوقفون عند نوع الشاي» كم هي عميقة رؤية جبرا في تذوق الحياة وفهمها، خاصة عندما نجد الكثيرين يحملون أكوابهم ويسيرون بلا متعة ولا غاية محددة.. كم هي هذه التفاصيل التي يتحدث عنها جبرا مهمة؟! فالأزرار والمقاعد والشراب طقوس غاية في القيمة والأهمية، وهو لا يتحدث عن فخامتها بقدر ما يتحدث عن الألفة معها!.
ويقول أيضاً: «الحياة في التفاصيل، في الأحاسيس، في الذائقة، في معنى أن تهزّ رأسك حزناً أو فرحاً أو طرباً لمقطع من أغنية قديمة» وفي هذه الرؤية حياة مستمرة بين الماضي والحاضر لإنسان لا يحيا الماضي وإنما ينتشي بأي سبيل عندما يسترجعه ذات لحظة من الزمن.
أعود لأقول: هذا هو جبرا الإنسان الناقد والمبدع، عاش الفكر، ولكنه في مرحلة لاحقة أدرك أن الفكر لازم، ولكن الحياة تستحق منا العناية بالتفاصيل، ولا يكفي أن تسير في ركب ما دون أن تفهم التفاصيل وتعطيها حقها.. الحياة تذوق وأحاسيس، ولابد لنا من السؤال عن نوع الشاي الذي نتناوله، ولا يكفي أن نتناول ماءً ملوناً ساخناً ونحن نسير في طريق الحياة في عجلة من أمرنا.. فنوع الشاي هو الذي يحكم أذواقنا، ويظهر متعتنا بالحياة.
صاحب «عرق وقصص أخرى» عاش الحياة بتفاصيلها، ولم يكن واعظاً لذلك نقرأ كلماته، ونهز الرأس طرباً أو حزناً أو فرحاً.. ونسأل: هل بإمكان الإنسان اليوم أن يحيا بهذه السكينة؟