وإن اختلفت الأسباب والذرائع والأساليب، فإن حملات الاعتقال التي نفذها متزعم ما تسمى «هيئة تحرير الشام» الإرهابي المدعو أبو محمد الجولاني، وطالت «رفاق دربه» من أيام «فتح الشام» إلى تنظيم «جبهة النصرة» إلى «الهيئة»، ليست عن اعتباط، أو لـ«جرائم» ألصقها الجولاني بهم، بل لأسباب أرجعها البعض المقرب منه لمصالح شخصية، وتكتيكات تتماشى مع متطلبات المرحلة المقبلة، بأن يكون رجل «الاعتدال» المقبول من الغرب إذا ما أراد الاستمرار في لعب دور كبير في المشهدية الجديدة للجغرافيا السورية والتي تعمل واشنطن على رسمها فتكون «النصرة» ضمن مجمل دويلات أخرى، «دولة خلافة»، بحسب ما تم تسريبه من أحد اجتماعات «المجلس السوري الأميركي SAC ».
في عملية ربط لمجريات الأحداث في إدلب وقيام «الجولاني» منذ سنوات بعمليات إقصاء لتنظيمات «جهادية» مناهضة له، وهي في الأساس تعاني من تباينات سياسية وإيديولوجية في صفوفها، واعتقال وتصفية «رفاق دربه» من أبو اليقظان المصري، وعبد الله المحيسني، وطلحة المسير المعروف باسم أبو شعيب المصري، وأبو العبد أشداء، ومهر الدين الأوزبكي، وأبو صلاح الأوزبكي، وجمال زينية المعروف باسم أبو مالك التلي، وليس انتهاء بميسر علي موسى عبد الله الجبوري المعروف أبو ماريا القحطاني، وعشرات الشخصيات القيادية، وما كشفه الصحفي في موقع «The Grayzone» حكمت أبو خاطر عن مساع لـ«المجلس السوري الأميركي – SAC» بالعمل على تقسيم سورية وإنشاء دولة خلافة لفرع تنظيم القاعدة «هيئة تحرير الشام» في إدلب، فإن حقيقة ما يجري من انقلابات ضمن صفوف «النصرة» تصبح واضحة، بأن «الجولاني» يمهد الطريق لقيام واشنطن بتبني فكرة إقامة «تلك الدولة» في إدلب، بعد أن يلبس متزعمها «الطقم وربطة العنق» ويكون الأقرب إلى المزاج الغربي.
تخلص «الجولاني» من رفاق الماضي، إنما هي محاولة للتخلص من ذاكرة الماضي، التي لا تسجل عنه وعن تنظيمه سوى الأعمال الإرهابية، ولا يشكلون بالنسبة للرجل سوى صورة قديمة، لا تناسب ما يطمح إليه مستقبلاً، الأمر الذي أكدته «مصادر جهادية» بقولها إن اعتقال القحطاني، «الصندوق الأسود» الذي يحفظ جميع أسرار «النصرة»، كان أمراً مدبراً من الجولاني في إطار مشروع التخلص من غير السوريين في جماعته، والذي يهدف في محصلته إلى شرعنة الهيئة وتحويلها من فصيل جهادي إلى جماعة معارضة مقبولة من الغرب»، الأمر الذي يؤكده تصريح القحطاني قبيل اعتقاله لقناة «فرانس 24» بقوله: «نحن نعتبر اليوم أن الجهاد انتهى وأننا لسنا حركة جهادية ولا نريد أن نصنف كجهاديين وأن يتكلم معنا خبراء بالحركات الجهادية، نحن خرجنا من هذا الأمر».
وإذا كان الجولاني يريد التخلص من ذاكرة الماضي المحيطة به، فإن ذاكرتنا ما زالت متقدة، بما تخطط له واشنطن، وأي دور وظيفي يمكن أن يلعبه زعيم «النصرة»، فجميعنا يذكر ما قاله ما يسمى المبعوث الأميركي السابق إلى سورية جيمس جيفري في حديث لموقع «فرونت لاين» الأميركي في حزيران 2021: «واشنطن لم تستهدف الجولاني أبداً، تواصل معنا عدّة مرات، وكان يريد في كلّ مرة أن يخبرنا بأنه ليس إرهابياً، كما أنّ تنظيمه لا يشكّل تهديداً للولايات المتحدة، وأنهم فقط يحاربون الجيش السوري».
تعمل قوات الاحتلال الأميركي تدميراً في سورية، وتدير ظهرها لتنظيم «القاعدة» وهي مطمئنة إلى سلامة ظهرها، بل إن حالة الاطمئنان تلك بلغت ذروتها حينما أرسلت صحفياً من موقع «فرونت لاين»، وهو مارتن سميث ليكون إبرة تخيط ثياب الجولاني الجديدة، وقلما يخط مقالة زعيم «النصرة» للقارئ الأميركي يخبره فيها أنه حليف لأميركا والغرب، وبأنه ليس إرهابياً، وبين حملات الاعتقال التي يشنها الجولاني، وما أقدمت عليه واشنطن سابقا من تبييض لصورته، وما كشف من مخططات عن «SAC» تكتمل صورة العدوان الأميركي على سورية، وتذهب الدهشة عن وجوهنا، وتحجم أقلامنا عن إثارة التساؤلات هنا أو هناك.