أثناء قيامي بواجب العزاء بأحد الشهداء، جلس بجواري شخص لا أعرفه، وبعد التحية، قال لي بلهجة ملغزة: «عندما تكتبون يا أستاذ، حِلُّوا الطَّبَّة!»، فاجأتني عبارته التي تضمر الإهانة، فهو يقصد أن كتابتي لا تترك أثراً، قلت له بما يناسب طريقته: «عندما ينشب حريق في البيت، من الجنون إشعال النار ولو كان البرد شديداً» عندها قطب وقال بحدة: «نحن بحاجة لصحفيين انتحاريين»! تغافلت عنه ملتفتاً لجاري من الجهة الأخرى. وعندما لكزني محاولاً استدراجي للكلام اكتفيت بالابتسام وهز الرأس.
عقب انصراف الرجل سألت عن سبب تطرفه، فقيل لي إنه موظف حكومي سابق تم تسريحه لعدم نظافة يده. لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك، فالرجل يريد صحفياً ينتحر في الدفاع عنه، رغم أنه متهم بالفساد!
عجيب أمر شارعنا السوري، يصمت ويصبر عندما يجب أن يتكلم ويبادر، وقد يلتزم الصمت لعشرة أعوام أو أكثر إلى أن تأتي قوة ما وتستثمر في سكوته، فيهدر دفعة واحدة رغم أن الهدير قد لا يعبر عن همومه الجوهرية، ولا يخدم قضاياه الوطنية!
المعاناة لا تبرر الخطأ، والشعور بالظلم لا يبرر السلوك المنفلت. فالخيارات المتطرفة تحول المظلوم إلى ظالم، وقد اكتشف أعداؤنا تركيبتنا وآلية ردود أفعالنا هذه فراحوا يلعبون بنا. لا شك بأن حرق القرآن الكريم فعل إجرامي بشع، لكننا عندما نرد بشكل غير عقلاني فنحرق ونحطم يميناً وشمالاً، يصبح الحق علينا، بعد أن كان معنا! وهكذا نحقق بسذاجتنا أهداف عدونا!
أحسب أن حكومة بلادنا ما زالت تغدق الأموال على الرسميات والشكليات، وأوضح مثال على ذلك تجديد ساحة السبع بحرات وزرع كتلة غريبة في قلبها لا علاقة لها بهوية المكان ولا بتاريخه. كما أن إلزام الطلاب بتسديد الأقساط الجامعية عبر الحسابات البنكية حصراً، هو مثال آخر لعدم شعور الحكومة بهموم الناس، وجاء في غير وقته، وقد «كمل النقل بالزعرور» عندما تم رفع أسعار المحروقات، بحيث قفزت الأسعار أضعاف زيادة الرواتب، حتى بات راتب الموظف المحترم، بعد الزيادة، يشتري له خمس بيضات كاملة في اليوم!
في ثمانينيات القرن الماضي دعيت لحضور عرس في السويداء وقد اعتراني الذهول عندما تبين لي أن أبناء جبل العرب ينشدون الأهازيج الوطنية في أفراحهم الشخصية والأهلية، وقد مسني هذا الاكتشاف وهزني، فكتبت في دفتر ملاحظاتي: «السويداء؛ بيوتها مقتطعة من عتم الليل وأهلها نهار». ولهذا كنت ولا أزال على ثقة تامة بأن السويداء ستكون دائماً درع الجنوب السوري الذي لن يضيع البوصلة الوطنية أبداً.
صحيح أن طريقة الحكومة في إدارة الموارد المتاحة وتوزيع الكعكة، لم تترك فرصة جيدة لمن يودون الدفاع عنها، غير أن انتقاد أداء الحكومة من دون التنديد بالفاشيين الأمريكان والأتراك وعملائهم المحليين والإقليميين الذين سرقوا قمحنا وقطننا وبترولنا ومصانعنا ومنشآتنا… وتسببوا بهدم بيوتنا وأوصلوا اقتصادنا إلى حيث هو الآن، هو نكوص عن الثوابت الوطنية وتخلٍّ عن القيم الثورية التي كرّسها قائد الثورة السورية سلطان باشا الأطرش ورفاقه بالدم والعرق.
أعلن بأعلى صوت أنني أومن بوطنية أبناء جبل العرب الأشم وعروبتهم الراسخة، لكن قلبي ينزف دماً عندما أرى بعض أقنية الفتنة تعرض الرايات الطائفية وأعلام الانتداب، بدل الأعلام الوطنية!…. كونوا على ثقة يا إخوتي في السويداء أن أهداف من يرفعون تلك الرايات، ليس الدفاع عن لقمتكم وكرامتكم وتغيير حياتكم نحو الأفضل، بل هو تدمير ما لم يدمر بعد من وطننا الجريح!