ثقافة وفن

عندما يكون المبدع ناقداً ومنصفاً … د. القط.. القامة الحداثية التي هضمت الأصالة والتراث أدباً ونقداً

| إسماعيل مروة

عُرف الأستاذ الدكتور عبد القادر القط ناقداً، ولكن القليلين يعرفونه شاعراً ولم يصدر سوى ديوان (ذكريات شباب) والذي يستوقف القارئ ليس الديوان أو عرضه أو تقويمه، فهذا أمر مضى عليه الزمن، لأن الديوان يعود إلى أربعينيات القرن العشرين حين كانت معركة القديم والجديد على أوجها، وتيار الحداثة، والقط من رموزه يسعى لإثبات وجوده، لكن الأكثر أهمية الدراسة الأولى للأستاذ الدكتور سعد درويش أستاذ الأدب الإنكليزي، والمقدمة التجربة والنقدية للدكتور القط وكلتا الدراستين تقدم رؤية عميقة في الحداثة وآلياتها وسبلها، وربما أعطت إجابات عن الأسباب التي جعلت الحداثة لا تقدم المطلوب منها، وجعلت الشعر القديم شعراً متحفياً.

اتباع ورومانس وحداثة

عرف د. القط في عالم النقد بشكل واسع، وفي تيار الحداثة تحديداً، إذ كانت له جهود كبيرة في الصحافة الأدبية المتخصصة التي كانت تدعو للحداثة ويرعاها، وفي كتبه التي كانت تدرس في الجامعة العربية والجامعات المصرية كان د. القط منحازاً إلى الشباب والتيار الحداثي، وهذا ما يدفع الكثيرين للحكم عليه من دون القراءة، فحتى تلك الكتب كانت ذات جذور تراثية واتباعية، وفي ثقافته رسوخ كبير ومتين، وهذا ما يدفع للاعتقاد أن د. القط ود. عز الدين إسماعيل وسواهما ذاك الجيل، كانت الحداثة لائقة بهما، لأنها ارتكزت إلى معرفة عميقة في التراث، وغنى معرفي في الحداثة والحركة الأدبية العالمية والعربية، ومقدمة (ذكريات شباب) تدل على ذلك، وليست مقدمة لمجموعة شعرية ولا لتجربة شاعر بقدر ما هي رؤية في الشعر والحداثة، وتقويم لحركة الحداثة التي كان بنفسه مدافعاً عنها، ومنخرطاً فيها، وها هو بعد التجريب وسنوات من العملين الإبداعي والنقدي يصل إلى نتائج قد لا تروق حتى لأولئك الذين انتمي إليهم في الزمن والحركة الحداثية مثل د. محمود أمين العالم، لكنها كانت منسجمة غاية الانسجام مع ركائزه ومعرفته، ولا تعتمد على إعطاء الآراء النقدية بما يوافق الهوى!

الشعر والحداثة

سأقتطف من المقدمة مجموعة من الأحكام النقدية التي عرضها د. القط، والتي تعتمد جوانب عدة:

تجربته الشعرية.

التجربة الحداثية ودوره.

النتائج العلمية لما وصل إليه.

«لكن الشعر الجديد لم يلبث أن تحوّل – في معظمه- عن الطريق الذي كان قد بدأ السير فيه، فغلبت على أسلوبه نثرية مسرفة، واتخذ لنفسه على حداثته قوالب يرددها الشعراء في معظم قصائدهم، وطغى على مضمونه جانب الدعاية المباشرة للقضايا السياسية والأحداث الاجتماعية من دون نظر كبير إلى الجانب الفني، وخدع كثير من الشعراء الناشئين بما يبدو في طريقة نظمه من سهولة ظاهرية، فأولعوا به وغمروا الصحف والمجلات بقصائد فجة قبل أن يكتمل لهم ما ينبغي من ثقافة لغوية وفنية ونضج في الفكر والعاطفة».

حين يصدر هذا الكلام عن ناقد بمستوى عبد القادر القط، فهذا له دلالة، لأنه واحد من رواد الحداثة، لكن الحداثة كما أشار تحتاج إلى ثقافة ورؤية فنية، وابتعاد عن الإعلان المباشر للسياسة والأحداث، وهذا يظهر اعتراضه على أن يكون الشعر منبراً إيديولوجياً مباشراً للسياسة وما يلزم عنها، ومن طريق آخر، فإنه يغمز من دخول من لم تكتمل ملكاتهم إلى معمعة الشعر، وهم غير مكتملي الفن والثقافة، والسبب الأساسي كان في استسهالهم موجة الشعر بطريقته النثرية الدعائية.

وربما كان هذا وراء نقد الدكتور محمود أمين العالم لشعر د. القط، فرؤيته الحداثية، وفهمه العميق للشعر ودوره لم يغفر له عند العالم الذي نال منه ومن شعره، لأن العالم يريد للشعر رسالة سياسية، فيقول العالم: «شعر د. القط من حيث المضمون فاقد لهدف محدد وإن كشف عن جهد دائب للوضوح والاستقرار، ولكنه سأمان، ملول، قلق، متعلق برؤية بعيدة غائمة يتوقع منها معجزة الخلاص، وهذا مما يشيع في شعره أحياناً مسحة تفاؤلية».

تجديد مدروس

وفي تقديمه للديوان يقول أستاذ الأدب الإنكليزي سعد درويش عن التجربة «الشاعر يميل إلى التنويع في الأوزان والقوافي، شأن المجددين، وهذه خطوة كبيرة وأساسية على طريق التجديد في شعرنا العربي.. هذا الديوان هو أحد الدواوين التي ترفع لواء التجديد في عصره وهو في الوقت ذاته يقف شاهداً على أن من يملك من القدرة على الشكل العمودي يحق له أن يجدد ويبدع ما شاء له التجديد والإبداع، فهو حينئذ يتجاوز نفسه، شأن رواد التجديد في كل فن».

ومن القراءة نجد أن العالم من منظور إيديولوجي يسعى للمضمون، فهو يريد رسالة سياسية واجتماعية شأن اليسار، ودرويش يركز على التجديد الفني الذي يمكن أن يتقدم بالشعر، وأن يحقق قفزات نوعية في التجديد، ولكن الذي حصل أنه بعد قرن من الحركة التجديدية الحداثية ضاع الكثير من الشعر ودوره، وخاصة في وجود خصومه بين التيارين الفكري والفني، ود. القط ناقد حداثي، وشاعر مجدد، وأستاذ للحديث، وراع من رعاة النهضة الحداثية، لكنه أرادها على أصول ثابتة راسخة توائم بين الفن والفكر ومن تجديده وحداثيته أعرض مثالاً واحداً، وأكتفي بآرائه النقدية التي لم يقف عندها الشعراء والنقاد وهي جديرة من أستاذ كبير:

بادر إلى اللذات

يا قلبي الضاوي

وأهزأ بما قد فات

من نسكك الغاوي

واسمع إلى أصوات

تستنهض الثاوي:

ما أعجب الأموات

في جنة المأوى!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن