«من لا يرى من الغربالِ أعمَى»، مثل شعبي اعتدنَا استخدامهُ عندما نُصغي إلى من يجهَد بأكاذيبهِ لإخفاءِ شمس الحقيقة بالغربال، هيهات هيهات فبعد سنواتٍ الحرب التي مضَت لم يعُد هناكَ إمكانية للعبِ على العبارات ولا حتى التخفي خلفَ رماديةٍ مقيتة والأهم الأهم، لم يعد هناك أي مجالٍ للمجاملات لأنه من الواضح أن هذهِ المجاملات تسهم إلى حدٍّ بعيد بإمعانِ الباغي بغيِّه، والعميل بعمالتهِ، والقذر بدونيته، فما الجديد؟!
شكلت مدينةَ السويداء خلالَ الأيام القليلة الماضية محورَ اهتمامٍ لوسائل الإعلام العربية والعالمية، بعض القنوات الإخبارية الفرنسية مثلاً والتي تجاهلت يوماً مجردَ الحديث ولو بتقريرٍ بسيط عن كارثةِ الزلزال الذي ضربَ سورية وما خلّفهُ من دمارٍ وضحايا ضمنَ مناطق سيطرة الدولة، وجدت بعشراتِ المتظاهرين في «ساحةِ الكرامة» بالسويداء مدخلاً مهماً لعودةِ الملف السوري إلى الواجهة، لم يكتفوا بذلك لكنهم قاموا باقتطاع مقابلات أجراها رؤوس الفتنة في المدينة الغالية على قلوبنا مع صفحات التواصل الاجتماعي فترجموها وبثّوها تحديداً في مقاطع يتحدث أصحابها عن مصطلحاتٍ رنانة من قبيل: «الحكم الذاتي هو الحل»، «الثورة ستنهض من جديد» وغيرها من المصطلحات التي قررَ البعض العودةَ إليها في وقتٍ ظننا فيه أنها انقرضت لأن استعادةَ للسيناريو ذاته وتوقع نتائجَ مختلفة هو دليل على أحد أمرين، انعدامَ الخيارات عند من يدير تلك المجموعات أو اللعب على الحالة الإعلامية في وقتٍ يكثر فيه الحديث عن مفاوضاتِ ربع الساعة الأخيرة بين جميع الأطراف، أليسَ من مصلحة الأميركي الدخول بمفاوضاتٍ ولو غير مباشرة وقد أرهقَ الدولة السورية بالاحتجاجات؟
لكن في المقابل هناك من سيسأل: لماذا كيل الاتهامات للمحتجين؟ أليسَ الوضع المزري الذي وصلت إليه الحالة الاجتماعية والاقتصادية سيجعل من المنطقي خروج تلكَ الاحتجاجات؟
قبلَ الإجابة عن هذا السؤال دعونا نتفق أولاً بأن حق التظاهر والاحتجاج هو من الحقوق المقدسة التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن أسمح لنفسي بتبرير انتهاكها، بالسياق ذاته نعترف بأن هناك فشلاً حكومياً على الكثير من المستويات، لكن في المقابل علينا الاعتراف بأن الوضع المزري من النواحي الاقتصادية والخدمات لا يقتصر فقط على محافظةٍ بعينها، وليس موجهاً ضد فئة من الشعب على حساب فئة أخرى ومن يزور أكثر من محافظة سوريَّة سيكتشف هذا الأمر، بل وربما سيكتشف أن ما تعيشهُ السويداء قياساً بالظروف العامة للبلد هو أفضل بكثير مما تعيشه حلب أو ريف دمشق، الأهم أن هذهِ الاحتجاجات التي يحاول البعض تصويرها وكأنها طريق للخلاص من الأزمات لا تطرح حلولاً، هل إن إقالة الحكومة ستعني تحسن سعر صرف الدولار غداً، إن كان هناك من ضمانات بحدوث ذلك سأكون أول من يخرج ليطالب بإقالتها، هل إن الدعوات الانعزالية لدواع مذهبية أو عشائرية هي الحل؟ إذن أنتم لا تفكرون بمفهوم وطني جامع، كيف تريدونني مثلاً أن أكتبَ لأدافعَ عن مطالبكم وكل ما تقدمونهُ هو مشروع فوضى جديد لا يختلف عن المشاريع السابقة والدليل تكراركَم للأخطاء ذاتها التي ارتكبها من سبقكم والتي يمكننا اختصارها بما يلي:
أولاً: عن أي كرامة تتحدثون؟
«مدَّاح نفسو كذَّاب»، عبارة قالَها أجدادنا يوماً في وصفِ ذاك الشخص الذي لا عملَ له إلا كيلَ المديحِ لنفسهِ بمناسبةٍ ومن دون مناسبة، ذاكَ يصف نفسه بالمميز والآخر يصف نفسه بالنخبة، لكن جديدنا هذه الأيام هم أولئكَ الذين يظنّون أنفسهم يختصرون الكرامة والكرامة بعيدة عنهم كبعد البراءة عن مشغليهم!
ربما فات من دعا إلى هذهِ الاحتجاجات أن الشعارات يجب أن تكون متماشية مع مسار الأحداث، فعندما تسمي هذه الاحتجاجات احتجاجات الكرامة، وكأنك فقط تختصر مفهوم الكرامة، وهذا يعني بكل بساطة أنك تتهم كل من لا يعطي أذنهُ لدعواتك بأنه لا يمتلك كرامة! أليست مفارقة عجيبة؟ علماً أن إخفاق هذه الدعوات الاحتجاجية لم يقتصر على السويداء فحسب، لأننا نثق بالوعي الذي تمتلكهُ الأغلبية الكاسحة من أبنائِها تحديداً أولئكَ الذين وإن خرجوا ليطالبوا بأمرٍ ما فيطالبون به بطريقة حضارية تحترم الوطن قبل كل شيء، لكن الفشل تعداها إلى باقي المحافظات التي بقيت هادئة إلا من بعضِ المسيرات المؤيدة والتي كان على أصحاب القرار إيقافها لأننا لسنا اليوم في وارد استعراض عضلات أو ماركات السيارات الفارهة، اليوم يريد الجميع أن يكون الشارع هادئاً وليسَ بمفهوم حراكٍ بحراك!
في السياق ذاته فإن من دعا إلى هذه الاحتجاجات وحاول توثيقها وسماها احتجاجات الكرامة تجاهل أن مفهوم الكرامة لا يتجزأ إذ لا فرق بين الكرامة الناتجة عن الدفاع عن الوطن والكرامة الناتجة عن الدفاع عن احتياجاتك وقيمتك كفرد، لا يمكن لكَ أن تطلب مني أن أدافع عن كرامتك كشخص في وقتٍ تقاعستَ فيهِ بالدفاع عن كرامةِ وطنك، لا تطلب مني أن أخرجَ عن طريقٍ مهَّدهُ لأبنائِنا شهيدٌ كعصام زهر الدين الذي أعطى لأجيالٍ قادمة درساً بمفهوم التلاحم بين كرامة الفرد وكرامة الوطن لألتحق بمن يظن أن كرامته حيث مصالحه! القضية بحاجة إلى إعادة تأهيلٍ عند البعض لمفهوم الكرامة إلا إن كان هذا التضارب لديهم مرتبطاً بالحكمة التي تقول: «الإنسان عدو ما يجهل»!
ثانياً: قل لي ما شعارك لأقولَ لك من أنت!
من الشعارات الغريبة التي رفعها المحتجون في هذهِ المظاهرات هي الحديث عما سموه «خروج القوات الإيرانية من سورية»، طبعاً هذه العبارة صارت مملة وتعاطينا معها في أكثر من زاوية سابقة بأنها تكرار ببغائي لا أكثر، لكن ولأن الحديث هذه المرة عما يسمونه احتجاجات ومطالب داخلية سأسمح لنفسي بالتعاطي مع هذه العبارة من منظور شخصي أولاً وواقعي ثانياً، فعلى المستوى الشخصي مثلي مثل كثر في هذا الوطن أتمنى أن أستيقظ ولا أجد على التراب السوري إلا قوات الجيش العربي السوري والقوات الرديفة لها من أبناء هذا الوطن، لكن لو أردنا التحدث بواقعية بعيداً عن المواقف المسبقة سأبدو ساذجاً إلى درجةِ كشف عمالتي بسهولة عندما أُطالب برحيل «القوات الإيرانية» فقط وأصمت، كنت سأقتنع بمظلوميةِ هؤلاء وبصوابيةِ مطالبهم لو أنهم طالبوا بخروج الجميع بمعزل عن الطريقة التي دخلوا بها، لكن التركيز على فكرة القوات الإيرانية هو كشف مباشر وسريع للهدف من هذهِ الاحتجاجات، أنا أمتلك الجرأة والشجاعة لأقول أتمنى خروج جميع القوات بمن فيهم الإيرانية من سورية لكن لماذا لم نراكم تتجرؤون على ذكر الاحتلال الأميركي والتركي وحتى الإسرائيلي أم إن مفهوم الشجاعة لديكم يسير بالتوازي مع مفهوم الكرامة المغلوط وبمعنى آخر رجال على وطنكم وأرانب على من يحتلون أرضه؟
ربما سقطت هذه التظاهرات وبطريقةٍ أسرع من المتوقع بكشف الهدف الحقيقي منها، سواء بالامتدادات الجغرافية مع الكيان الصهيوني أم حتى بإسقاط العلم السوري الجامع للكل ومن دون استثناء حيث إن مطالبك أياً كانت وتحت أي توجه ستسقط عندما ترفع راية غير الراية التي يستظل بظلها كل سوري!
في الخلاصة: من لا يرى من الغربال أعمى، عبارة كغيرِها من العباراتِ الدارجة التي تختصر الكثير من الشرح، فمستقبل سورية الذي نراه إن صمتنا عن هرطقاتكم سيكون أكثر ظلاماً مما هو الآن في ظل الحرب والحصار، إن شئتم الحديث عن مستقبل سورية فلتكن أولويةُ المطالب بأن وحدةَ الوطن بعلمهِ وجيشه وحدوده مسألة فوق دستورية ماعدا ذلك لا مانع من النقاش، بما فيها أن يكون مستقبل سورية بعيداً عن أي مرجعيات عشائرية أو دينية، لأن فشلنا في إصلاح الكثير من الأخطاء ساهم بتكرار السيناريو ذاته لمراتٍ عدة وجعل بضع عشرات منكم يحتلون صورةَ مدينة بالكامل.
من لا يرى من الغربال أعمى، ربما من المفيد أن نجعلَ لكلِّ مثلٍ تتمة، هل تريدوننا مثلاً أن نفقأ عيوننا لكي تبرروا عدمَ رؤيتنا لحقيقيكم، أو أن تقوموا فعلياً بعملية رتي لثقوب الغربال حتى لا نتمكن من رؤية الدونية التي تمتلكونها، لكن حذار في كلتا الحالتين أن تستخدموا الكرامة والشجاعة كشعاراتٍ لتحقيق مطالبكم حيث إن بينكم وبينهما سنوات، وإن كنتُ أمتلك أن أقدِّمَ لكم من نصيحة فسأقول إن ما يجوز استخدامهُ لسترِ عيوب غربالكم عبارة واحدة قالها سابقاً قدوتنا الكبيرة سلطان باشا الأطرش:
نيال اللي ما عندو شرف، فما بالك بمن يحركهم ممن لا يملك الكرامة ولا الشجاعة ولا الشرف!