كان الحديث عن التقارب السوري- التركي البادئ قبل نحو عام نتاجاً لحالة ارتأت موسكو، ومعها طهران، أن فعلاً من هذا النوع سوف يكون من شأنه تنشيط مسار «أستانا» بل وإعطاؤ ه زخماً كان ينقصه خصوصاً في جولاته الأربع التي سبقت جولته الأخيرة الأمر الذي دفع بالاثنين، أي موسكو وطهران، باتجاه الرهان على تفعيل تلاقيات من نوع التقارب بين دمشق وأنقرة على الرغم من التراكمات التي احتواها ملف العلاقة الشائكة بين الأخيرتين بفعل أزمة اجتاحت الدولة السورية على مدى يزيد عن اثني عشر عاماً كان لأنقرة فيها دور هو الأبرز، والشاهد هو أن الأخيرة كانت سبباً رئيسياً في المآلات التي وصلت إليها تلك الأزمة، هذا إن لم تكن هذي الأخيرة قد مثلت «مشروعاً» تركياً كان مدروساً ومخططاً له من قبل، مما تشير إليه العديد من الوثائق التي تكشفت مؤخراً، وتدعمه أيضاً العديد من الوقائع التي تراكمت ما بين دفتي الصراع البادئ ربيع العام 2011 واليوم.
راكمت التصريحات الصادرة، خلال الأسبوعين الماضيين، عن مسؤولين سوريين وأتراك على حد سواء، مشهداً يعطي انطباعاً مفاده أن «كتلاً صخرية» تعترض مسار عربة التطبيع وهي من النوع الذي لا تستطيع «الجرافات» الروسية والإيرانية إزالته لضمان معاودة إقلاع العربة التي ستكون، من دون شك على موعد مع نظيرات لها قياساً لإرث تاريخي طاغٍ على العلاقة السورية- التركية ووقائعه تقول: إن «السلف» التركي بسط هيمنته على سورية لمدة تزيد عن أربعة قرون، وتضيف، تلك الوقائع: إن «الخلف» لا يزال يدور في المدارات نفسها وإن كان بتلاوين مختلفة تفرضها المتغيرات الحاصلة على «الكل» بضفتيه العربية والتركية.
وتشير التصريحات التي أدلى بها الرئيس بشار الأسد إلى قناة «سكاي نيوز» قبل نحو أسبوعين في هذا السياق إلى أن ثمة عثرات كبرى تعترض مسار العلاقة بين البلدين، ولربما يشير قوله: إن «تركيا لا تريد الانسحاب، بل إضفاء مشروعية على احتلالها للأراضي السورية»، إلا أن ذلك المسار يتجه نحو مزيد من التصعيد والتوتر، ويؤكد في الآن ذاته أن اللقاءات العديدة التي جرت على مختلف المستويات لم تستطع أن تصل إلى أرضية توافق من النوع الذي يمكن البناء عليه، وفي محاولة لمعايرة الموقف السوري بعد مرور نحو سنة على إطلاق وزير الخارجية التركي السابق مولود جاويش أوغلو للشارة الأولى، تبدو دمشق موقنة بأن «الانعطافة» التركية التي حملتها هذي الأخيرة تطول «القشور» ولا تصل إلى «اللب»، والمؤكد هو أن في الأمر ما يدعو إليه، فالرد التركي على مسألة الانسحاب من سورية كشرط أساسي يجب أن يسبق الشروع في أي مفاوضات كان في الغالب التفافياً وإن تبدى بوضوح في مرات عدة على نحو ما فعل وزير الخارجية حقان فيدان قبل أيام عندما قال: إن «الجيش التركي لن ينسحب من سورية إلا إذا لم يعد هناك وجود لأي مقاتل من وحدات حماية الشعب الكردية»، هذا يعني أن الانسحاب التركي لن يحدث في المدى المنظور لأن مسألة «وحدات حماية الشعب الكردية» مسألة مرتبطة بالوجود الأميركي بشمال شرق سورية، وأن مسألة تفكيكها عسكرياً شديدة الصلة بذلك الوجود، ولربما يتعين علينا في سورية، وفق الرؤية سابقة الذكر، أن ننتظر «انعطافة» أميركية يمكن لها أن تحدث في هذا السياق على نحو ما فعلت واشنطن – دونالد ترامب عام 2018 قبيل أن يستطيع صقور «البنتاغون» ثنيه عنها، الأمر الذي لا يبدو أن واشنطن – جو بايدن بواردها الآن، وعلى الضفة التركية، من هذا الشأن، لا يبدو أن النظام التركي بوارد التصعيد مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن لاعتبارات تتعلق بمسائل اقتصادية بالدرجة الأولى، الأمر الذي لو كانت أنقرة بوارده لأمكن الوصول إلى حلول من نوع ما لتلك المسألة – الشرط.
بناء على ما سبق فإن التصريحات التركية التي تكررت على امتداد عام كامل ومفادها أن أنقرة على استعداد لبدء مفاوضات مع دمشق «من دون شروط مسبقة» تصبح كلها في سياق التسويف الذي تعتمده القوى «المتفوقة» ميدانياً بفعل اختلال ميزان القوى لمصلحتها ضد دول محتلة لأراضيها، وهذا التسويف الذي تتفهمه فقط الدول التي هي في الوضعية نفسها يمثل تلاعباً بمعايير التكافؤ، ومحاولة للاستثمار الحاصل في اختلال ميزان القوى بين طرفي الصراع، ولربما كان أقرب مثالاً تستحضره السردية السابقة، والذي من الممكن أن تكون أنقرة بوارد تكراره بطبعة سورية، هو في الشمال القبرصي، فتركيا قامت العام 1974 بعملية عسكرية أطلقت عليها اسم «أتيلا» غزت من خلالها شمال قبرص الذي لا تزال تحتله حتى الآن على الرغم من أن كل دول العالم لم تعترف بالوضعية التي أرستها تلك العملية باستثناء تركيا و«حكومة» شمال قبرص التي جاءت كنتيجة لذلك الفعل.
ودفع تعثر المفاوضات، آنف الذكر، بأنقرة لاتخاذ خطوات فردية، أي من دون التنسيق مع دمشق، في ملف اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها فهي قررت وعملت على نقل عشرات الآلاف من اللاجئين من ذوي الانتماءات المذهبية والعرقية المحددة إلى مناطق هي غير مناطقهم الأصلية، والمؤكد هو أن انفرادية أنقرة بمسألة من هذا النوع سوف تثقل على عربة التقارب السوري- التركي التي لم يكن ينقصها المزيد لكي تراوح في مكانها على الرغم من أن الطريق لا تخلو من «فرق الإنقاذ» التي أبدت في العديد من محطاتها جاهزية لافتة.
لا يبدو أن السياسات التركية المعمول بها منذ آذار 2011 قد تغيرت، وما تغير فعلاً هو الأدوات التي يمكن لحظ اختلافها ما بين «العشرية الأولى» وبين العامين الفائتين من «العشرية الثانية»، ومن الراجح أن تلك السياسات لن تتغير في أهدافها طالما بقيت التوازنات القائمة راهناً على حالها، والتغير سيحصل فقط فيما لو أبدت الدول العربية موقفاً حازماً يستخدم ورقة الضغط الاقتصادي في مقابل تغيير أنقرة لسياساتها تجاه جارتها التي تحتل 10 بالمئة من أراضيها.