من دفتر الوطن

آلة الزمن!

| عصام داري

لا تحدثوني عن اليوم وغداً، عن واقعنا المؤلم ومستقبلنا الضبابي، فأنا مللت من التكرار والحديث عن الغلاء والأسعار.

لا تحدثوني عن زيادة الرواتب التي ابتلعها رفع الأسعار بقرارات رسمية متلازمة مع كبار التجار!

أنا شخصياً في هذه الأيام أسبح في بحر الذكريات والزمن الذي كان، وكنا فيه نعيش في عالم آخر غير هذا العالم الذي وصلنا إليه، والذي أنشد الهروب منه على جناح الذكريات، واستعادة صور الماضي وكأننا في فيلم سينمائي طويل.

في ذلك الزمان كنت وزيراً للتموين في حكومة أمي، وأفتخر بأنني كنت ومازلت أفضل وزير تموين عرفته جمهوريات الموز وما حولها حتى لحظة كتابة هذه السطور، فلم أقصر يوماً في تلبية متطلبات جمهوريتنا الصغيرة الواقعة في حي شعبي يحدها الحب من الشرق، والاحترام من الشمال والحمية من الجنوب والتعاضد والتعاون من الغرب.

كانت أمي تعطيني ورقة خمس الليرات الخضراء التي أعطاها إياها والدي مصروفاً للبيت خلال يوم أو يومين، وكنت أتوجه فوراً إلى الأسواق ومعي ورقة خمس الليرات وقائمة بمتطلبات البيت من خضار وفواكه ولحوم وسمن وأجبان وألبان وغيرها.

كنت أذهب إلى السوق العتيق بغرض شراء البيض الطازج من الفلاحين البسطاء، أذكر مرة أن الفلاح طلب خمسة قروش ثمناً للبيضة الواحدة، لكنني كنت زبوناً عنيداً ومساوماً بارعاً فأشتري ثلاث بيضات بعشرة قروش، أي بفرنكين فقط لا غير، ولن أقيس أسعار الماضي على الحاضر إذ لا تجوز المقارنة، بين ثلاثة قروش للبيضة الواحدة تقريباً، وبين ألف وخمسمئة ليرة هذه الأيام مع اختلاف اللون والطعم، وطبعاً لمصلحة بيض زمان!.

كنا نعرف ما الشواء؟ على عكس جيل هذه الأيام الذي يحتاج إلى ترجمان محلف كي يعرف المشاوي كالكباب والشقف والكستليتا والشرحات على عجين، والقائمة تطول، وصار أولياء الأمور يصورون المطاعم والوجبات التي تقدمها للزبائن ليس على سبيل الدعاية، وإنما لتعريف أولادهم على «طعام الذوات»!

أحنّ إلى الماضي وأشعر فعلاً أنني أستعيد تلك الذكريات القديمة وكأنني أعيشها في الواقع، وكأنني ركبت آلة الزمن التي حدثنا عنها كاتب الخيال العلمي الشهير هربرت جورج ويلز الذي ألف أول رواية خيال علمي في التاريخ.

كم نحتاج اليوم إلى آلة الزمن كي ننسى الأوضاع الصعبة التي نعيشها، ولا ننسى أننا لسنا وحدنا في كوكب الأرض، فالبشرية جميعها تعاني كما نعاني، وإن اختلفت النسبة بين شدة المعاناة ورخاوتها!

نحتاج إلى آلة الزمن كي نستعيد طفولتنا الضائعة، وألعابنا التي تحطمت حتى قبل أن نشتريها من دكاكين الفرح والمرح، نحتاج إلى تلك الآلة بالسرعة الممكنة لأن جيل اليوم لم يشعر بحلاوة الحياة كي يغني مع سيد مكاوي: يا حلاوة الدنيا يا حلاوة، أو مع فريد الأطرش «الحياة حلوة» فهذا الجيل لم يعرف سوى الحروب والدمار والإرهاب والقتل، وخاصة في السنوات القليلة الماضية.

هل من مغيث يعيد لنا طفولتنا وزهرة شبابنا وحلاوة أيام زمان، أيام البراءة والحب والمحبة التي كانت عنوان بلد كامل؟

هل فهمتم لماذا أحن إلى الماضي والذكريات؟ ولماذا أريد الهروب بأي صاروخ عابر للقارات يحملني إلى بلاد جديدة فيها كل ما يشعرنا أننا بشر؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن