عبرَ قرونٍ من الزمنِ تطورَ مايُعرف بـ«علم النفس الجنائي» من مجرد أفكار تحاول التصويب على النفس البشرية التي تخرج عن السلوك القويم، إلى علمٍ كامل يهتم بسلوكيات المجرمين قبل وبعدَ ارتكابهم لجرائمهم، من هذا المنطلق، غالباً ما يُصنَّف المجرمون على أنهم أشخاص تورطوا بارتكابات خارجة عن القوانين نتيجة لعدةِ عوامل أهمها البيئة المحيطة التي تفرِض عليهم ضغوطاً تنتهي بهم وراءَ القضبان، مع الأخذ بالحسبان أن المجرم لا يُولَد مجرماً وليس هناك من جيناتٍ وراثية تنقل الإجرام عبر العائلة، والأهم من كل ذلك غالباً ما تتصف بعض الجرائم المرتكبة بأنها محبوكة لدرجةٍ قد تثير الإعجاب بذكاءِ المجرم، هنا تحديداً نتحدث عن جرائم النصب والاحتيال وإن كان الذكاء لم يتم استثمارهُ في الإطار الصحيح.
هذهِ المقدمة تفسِّر لنا لماذا اندفعت الكثير من الدول لتبديلِ طريقة التعاطي مع المحكوم، إن كانَ بتحويلِ العقوبة من مبدأ القتل النفسي البطيء إلى فرصة لإعادة التأهيل، أو إن كان لجهةِ النظرة إلى المجرم ذاتَ نفسهِ كشخصٍ قابلٍ للعودةِ إلى الحياة من جديد، ربما حققت هذه التجارب العديد من النجاحات لكنها في الوقت ذاته فشلت في تحويل الكثير من المجرمين إلى أشخاص قابلين لإعادة الاندماج في المجتمع، لكن النظرة يجب أن تكون دائماً بالمنحى الإيجابي، بعض الإخفاقات يجب ألا تكون درباً نحو فقدان الأمل، فماذا عن سورية؟
لا أحد في سورية إلا وسمع عن ملحمةِ سجن حلب المركزي التي خلدتها السينما السورية بفيلم «رد القضاء»، القضية لم تكن فقط بالصمود الأسطوري لحاميةِ السجن في وجهِ قطعان الإرهابيين لكننا نتحدث عن انخراطِ عددٍ من المحكومين بالدفاع عن السجن رافضين تركَ إخوتهم يقاتلون وحيدين، هناك من سيتذاكى ليقول إنهم قاتلوا لكيلا يقعوا هم أنفسهم بأيدي هذهِ التنظيمات لكن هذا الكلام لا معنى له لأنهم أساساً كانو مسجونين بـ«سجن الدولة» فهم يمتلكون مظلومية مسبقة بمفهوم هذه التنظيمات، أليست هذه المقاربة إثباتاً بأن النظرة تجاه المحكوم يجب أن تكون نظرة مغايرة للنظرة التقلدية.
الجواب ببساطة نعم، ولعل ما دفعني لكل هذهِ المقدمة هو الخبر الذي تحدث عن افتتاح مركز نفاذ للجامعة الافتراضية في سجن اللاذقية المركزي، وكلام السيد وزير الداخلية عن أعداد الناجحين والناجحات من نزلاء السجن وإمكانية متابعة تحصيلهم العلمي مستقبلاً، بصراحة مشكلة الخبر أنه مرَّ في وقتٍ مكتظ بالأحداث فلم يلقَ الاهتمام المناسب، لذلك قررت ألا أجعله يمر هكذا من دون توجيه الشكر الكبير لكل من ساهم في تجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع من منطلق تعويم الإيجابيات، أما أولئكَ الذين سخروا منها وتحدثوا باستغراب عن الربط بين الثقافة والإجرام فأقول لهم من دون استثناء: هذه الروح العدوانية التي تتحدثون بها يصنفها علم النفس بالروح التي تميل نحو الإجرام، الفرق بينكم وبين من هم في السجن بأنكم لم توضعوا في الظروف ذاتها التي دفعتهم لارتكاب جرائمهم، من المعيب حقاً تقزيم كل إنجاز والنظر إليه بهذه الطريقة التهكمية، تباً لكم.