ثقافة وفن

محمد الحريري الشاعر المنبري المتفوق وابن التقلبات … أعطى سورية شعره وأدبه في أصعب الأوقات ولم يتخلف عن قضاياها

| إسماعيل مروة

الحديث عن محمد الحريري هو حديث عن مرحلة كاملة من تاريخ سورية الحديث، حديث عن الاحتلال الفرنسي الذي أدركه في صباه، وحديث عن الاستقلال وشخصياته، وحديث عن الدولة المستقلة حديثاً، وحديث عن فورة التيارات الفكرية والسياسية التي ملأت الأرض السورية، وحديث عن الصراعات الإيديولوجية بين ديني ووضعي، وحديث عن نهضة الإنسان السوري في منتصف القرن العشرين.

قد يقول قائل: هذا كلام عام ينطبق على كل أديب، بل على كل إنسان وجد في تلك المرحلة، فحتى الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب كان شاهداً، وهذا الكلام صحيح من حيث الشهادة الحسيّة الجسدية، ومن حيث الحضور بالذات.. أما ما عنيته بالشهادة على الدولة السورية المستقلة، لا ينطبق إلا على قلة من الأدباء، وفي مقدمتهم شاعرنا الجميل والطريف وابن الحياة محمد الحريري.

الشاعر المنبري لقضايا الوطن

ثمة فروق بين شاعر وآخر، وبين أديب وآخر، فشاعر أخلص عمره للغزل، وفرد روحه لمشاعر الحب يصنع سياجاً لنفسه كما فعل نزار قباني في مرحلته الأولى كما يشير جبر إبراهيم جبرا في دراسة من أجمل دراساته وأعمقها، وكما فعل ابن حماة الشاعر الحكيم وجيه البارودي، وشاعر التأمل يقف حياته على دراسة الظواهر غير المدركة، وربما انتهت حياته دون أن ينغمس في شؤون الحياة كما فعل عبد الباسط الصوفي وغيره من الشعراء، وشاعر مؤدلج مع تيار سياسي محدد تجده مخلصاً لهذا التيار يردد ما يريد، ويصوغ منطلقاته دون أن يحيد عنها كما هو حال الكثيرين، وفي كل توجه سياسي ديني أو وصفي.. وهكذا تستمر التوصيفات، وجميعها تنطبق على شاعرنا المبدع محمد الحريري، ولا تنطبق نهائياً، والسبب الأساسي يتمثل في صفة محمد الحريري المنبرية، فهو شاعر منبري بامتياز، وأكاد أزعم، ولم ألتقه سوى مرة واحدة، ومرات في تنقلاته اليومية، أكاد أزعم أن الشاعر المنبري الأول والوحيد في الشعر السوري الحديث، ولا أقصد أن غيره لم يكن منبرياً، فالذين ملكوا المنبر وسيطروا عليه، وعلى فن الشعر وإلقائه كثر ويصعب عدّهم، ولكن محمد الحريري كان منبرياً في شعره وعشقه وغايته، شعره للمنبر أكثر منه للورق، وللإلقاء أكثر من أي شيء آخر، وهذه براعة قلّ أن نجد مثيلاً لها عند شعراء آخرين.

شاعر التجارب

يشير الأستاذ الشاعر شوقي بغدادي في مقدمته لديوان صديقه محمد الحريري الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 1985 في بادرة نبيلة من الاتحاد وصديقة إلى مجموعة من الميزات في تجربة الحريري:

– الشعر القصصي، وضرب لذلك مثال قصة البني يوسف التي صاغها الحريري عدة مرات، وفي كل مرة يعود إليها ويغيّر ويبدّل، وربما ينسف القصيدة كاملة، ولكن القصة لم تكتمل على أي حال لأن الحريري بمزاجه لم يرضّ الرضا التام عن القصة الشعرية، وربما كان السبب يتمثل في أن الحريري لم ينشر شعره، ولم يحفل بنشره، فانتهت القصة إلى صورة قد تكون تجربة، وقد تكون في صورة نهائية.

يا يوسف ارحمني فقد
أهوى على كبدي السقام

وفي تجربة أخرى:

يا يوسف أجرع هيت لك
ودع التقى وذر الصيام

وفي تجربة أخرى:

يا يوسف ارشف هيت لك
ودع الظما وذر الأوام
هي لحظة هيا اغتنمها
إنما العمر اغتنام

وفي تجربة أخرى:

هي لحظة وأنا الطريحة
إن رفضت فلا قيام

وفي تجربة أخرى:

هيا اقترب يا يوسف ادلف
ما يخيفك يا غلام
القصر خلو ليس فيه
سوى الصبابة والضرام

أقف عند هذه التجربة لأظهر أمراً مهماً هو أثر المنبرية، فتجربة قصة النبي يوسف تظهر قدرة الشاعر وقوته في الغوص العميق، ولو أن الحريري أعطى هذه التجارب حقها لكنا خرجنا بأشعار من نوع آخر لما فيها من التأمل والثقافة والعمق، وأزعم أن الحريري كان كلما خلا إلى نفسه وشاعريته دعاه المنبر، واستنفره الحدث، فعاف ما في يديه، وجال على البلاد، ورثى، وتحدث، ووصف، وهجا، بما يستدعي المنبر، وبعد مدة ليست بالبسيطة يعود إلى ما كان قد بدأه، لكن الشحنة اختلفت، والظرف انتهى، وتراكم الأفكار احتاج إلى إعادة صياغة ليظهر من جديد بما يناسب المدة الزمنية التي هجرها الشاعر فيها، والتي قد تمتد شهوراً وسنوات، والقصة تستدعيه بكل حب: هيا اقترب.. يقترب، يقارب، لكنه لا ينجز.

شعر الحداثة

يرى الأستاذ بغدادي أن الحريري قارب شعر الحداثة، ورأى في تبنيه لشعر التفعيلة مقاربة حداثية، وهذا حكم فيه من الصحة ما فيه، لكنه ينقصه التفصيل والتمثيل في أمرين: شعر الحريري والحداثة، فتبني شعر التفعيلة لا يعني الحداثة مطلقاً، والحداثة أمر يرتبط بالشكل والمضمون معاً، وقد يكون الحداثي في الفكر أكثر أثراً كما هو أمر عمر أبو ريشة الذي كان شاعراً حداثياً من حيث موضوعاته وتناوله وصوره ومقطعاته، مع أنه لم يقارب شعر التفعيلة أو الشعر الحديث، وقد يكون الشاعر شاعر تفعيلة أو شاعراً حديثاً بكل المعايير إلا أنه لا يملك الحداثة وروحها وما يمكن أن تضيفه إلى التجربة، وهنا يصعب عليّ إيراد الأمثلة، فبعض مدّعي الحداثة وقد تحرروا من الشكل قصداً أو لجهل من أصدقائي، ولكن أورد حجة واحدة تتعلق بأثر هذه الحداثة، فقليل هم الشعراء الذين تركوا أي أثر في حداثتهم وركام الدواوين سواء كانت على البحور أو التفعيلة أو على النمط الحر لا يصنع شاعراً، ولا يعزز وجوده ولو كثر دارسوه بتكليف أو بمجاملة، والأمثلة أكثر من أن تحصى، لكن الحريري الشاعر الحق لم يُضرْه أنه شاعر كلاسيكي متمكن في البحور والتفعيلة، ولم يُضره أنه لم يكن حداثياً بالمعنى السلبي للحداثة.

أما لماذا غابت الحداثة بصورتها المتداولة عن شعر الحريري؟

فالإجابة تتعلق بأمرين اثنين:

1- مهمة الشعر في زمنه.

2-المناسبات الوطنية والمنبر.

أما مهمة الشعر في زمنه، فكثيرون لا يولونها الأهمية الكبرى، وهي الأصل والأساس فالوطن يخرج من احتلال، والوطن يقارع الاستعمار، والوطن يدفع الأثمان، والأكثر أهمية: الوطن يبحث عن هويته.. والحريري بشاعريته وانتمائه وذكائه الفطري كان يبحث في هذه الميادين ليعزز هوية الوطن، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق من خلال التيارات الحداثية التجريبية، ولا من خلال التهويمات، فالواقع واقع ولا يحمل سمة أخرى يمكن الالتفاف عليها.

وأما المنبرية فأمر يقتضي الوقوف عنده مطولاً، عندما يستدعيه المنبر، ويستثيره الميكرفون فالشعر عندها يحتاج الوزن والقافية والتفعيلة، ومن طرف آخر يحتاج المباشرة والوضوح.. وأذكر من باب الطرفة والألم أن أحد أساتذتي، وهو أستاذ رياضيات رحمه الله، ومن الميدان، كنا في جلسة فقال: إن أهم الشعراء في العصر الحديث الحريري، وليتني أحصل على ديوانه أو على الأقل قصيدته في العالم الجليل بهجة البيطار، وفي الجلسة التالية قدمت لأستاذي نسخة من الديوان مصوّرة، فكانت سعادته غامرة وهو يقرأ ما قاله الحريري في اللغوي الشيخ البيطار، أسوق هذا المثال لأقول: ربما لم يلتق الحريري بالبيطار، ولم يتتلمذ عليه في حلقاته وربما كان لصيقاً به، لكنه عندما دعي لرثائه والقول فيه، قال قصيدته التي أحبها أستاذي وأبناء الميدان.

فقدتك استاذي ومثلك يفقد

فاطفئ ضلوعي إنها تتوقد

غرستك في النسيان ذكرى تفتحت

أزاهيرها فالذكريات تورّد

سأفتح أبوابي لطيفك كلما

تهلل منك الطيفُ يحدوه موعد

وعندما يتحدث عن عملية فدائية، فإنه يتناول حدثاً مباشراً ساخناً، ولو قدّمه في قصيدة التفعيلة، فإنه يحافظ على الوضوح والمباشرة لأنه يؤدي رسالة، ويقدم بطاقة حب للفدائيين.

حطت وفيها من مغاوير اللهيب

أربعه

في لحظ كل منهم منارة

وفي الحنايا زوبعه

وفيهم تضيء شعلتان

بلهب الجديله

قد ضفرت شذورها

أنملةُ العروبة الأصيلهْ

مقام التربية عنده

في ذلك الزمن القريب الذي أصبح بعيداً اليوم عنا من ناحية الزمن، ومن ناحية الروح السائدة كان الحريري شاعراً منتمياً للأمة وقضاياها والإنسان وهمومه، وها هو الحريري الذي كان معلماً يقف أمام العلم ليقدم صورة ولا أبهى للمعلم، لم يقارب فيها شوقي و(قم للمعلم..) ولم تصل شكواه إلى درجة إبراهيم طوقان (إن المعلم لا يعيش طويلاً) بل قدّم الصورة المشتهاة للمعلم من زمن سقراط إلى زماننا وكل الأزمنة، رابطاً المعلم بمهنته وعشقه.

هذه مائدة العلم على الأزمان منصوبه

وعليها ألف كأس من شراب المعرفه

وحواليها يُرى سقراط رب المعرفه

رفع الزّند وأقسم

إن كأس المعرفه

إن أردناه على الدهر سليماً لا يحطّم

فلتصنه أبداً كفّ المعلم

أيّ حداثة أعلى من هذه الحداثة؟

أي توافق بين الشكل والمعنى أعلى من هذا التوافق؟

أي عمق واستلهام يمكن أن يتفوق على هذا الفهم العميق للمعلم ودوره؟

وهذه التساؤلات ليست للرد أو للإنشاء، وإنما لو قرأ واحدنا ديوان الحريري فسيجد أكثر من قصيدة في المعلم، واحدة منها بعد هذه مباشرة، وهي موزونة مقفاة.

يدك الوضيئة إنها ريحان

فاغرس يديك يعربد البستان

وفي كلتيهما من المعاني الجميل، ولنا أن نعرف الحداثة وصورتها، وما ينسجم مع جوارحنا وعقولنا.

مع القامات الوطنية والقومية

الانتماء هو الذي هزّه عندما بلغه كما بلغ السوريين كلهم نبأ استشهاد الطيار البطل فايز منصور.

يا فارس الميغ التي ما شاهدت
من قبل مثلك من يقود ويركب
قيثارة الميغ استبتك بعزفها
فعزفت فيها ما يثير ويعجب
إنا غرسنا في الثرى قاماتنا
غرس الرماح فلن تصول الأذؤب

والانتماء للوطن والأمة، والقامات نجد طرافة محمد الحريري وهو يخاطب رفات الأمير عبد القادر الجزائري عندما تم نقل رفاته إلى موطنه الجزائر:

يا رفات الأمير أين الرحيل
فجع القبر فهو مضنى عليل
ذاب فيك الثرى وذبت عليه
فعجبنا من منكما المحمول
أنا أخشى أن يرفض القبر
تسليمك والقبر كالرجال نبيل
لا تعاتب دمشق إن ضمّت
النعش إليها فالمقل جليل
لا تعجب إن سال في برداها
نهر دمع عليه حزناً يسيل

هذا الشعر الموزون المقفى، التقليدي برأي بعضهم أليس حداثياً في صوره، وفي لغة خطابه العادية اليومية السهلة البسيطة؟

محمد الحريري شاعر من الأهمية بمكان، قد لا يضعه كثيرون في الطبقة الأولى من شعراء سورية في العصر الحديث، لكنه طبقة وحده حياة ومشاركة وإبداعاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن