ثقافة وفن

نادى بالمحبّة والصدق وهما أبرز عناوينه إلى مماته … وداعاً «ندرة اليازجي»… مؤلفاته وأبحاثه .. رصيدٌ وكنزٌ لأجيالنا القادمة

| عامر فؤاد عامر

«صوتٌ صارخٌ في البريّة»، قد لا نجد الأذان اليوم لتصغي لصوتك الحق، وقد لا نتمكن من توصيل جوهر رسالتك الإنسانية لأبناء الجيل الحديث فهم لا يكترثون للكلمة والكتاب، لكن ذلك لن يلغي قوّة كلامك فينا وفي أمل عيش كتاباتك لمن يأتي بعدنا، أنت ذخيرة للسوريين في مؤلفاتٍ لم تلقَ الرعاية الكفيلة بأن تكون منهاجاً أساسياً ومنارة في فكرنا اليومي الآني.

فيلسوف عصرنا
الباحث والمفكر «ندرة اليازجي» إن وصفناك كذلك، فنحن مقصّرون أيضاً، فأنت فيلسوف عصرك، وأنت من فهم الحياة أكثر من الجميع، ما زلت في نظري رمز دمشق الذي لم نكشف معدنه الأصيل حتى هذه اللحظة، ما زلت الأبّ الكبير الذي وجّهني في كثيرٍ من الكلمات النبيلة الجميلة التي ترنّ في ذاكرتي. عندما دعوتني لمحاربة الخوف وللتسلح بالقوة من خلال محبّة اللـه، كيف كان ذلك؟ كان في لقاءٍ حميمي في آذار من العام 2007، وصفت لي حينها أن: «… الحياة طريقٌ وعند كلّ منعطفٍ أو زاوية منه يختبأ الخطر، يهددني ليمتحنني، متمثلاً بأفعى تركن في عتمة أو ضبعٌ يتهيأ لمباغتتي، أو ما يشبه كائناتٍ أخرى أكثر غدراً، وحينها قلت لي: «إيّاك وأنّ تسلم نفسك لشعور الخوف، بل فكر في اللحظة التالية، لحظة انتهاء الهجوم وفرحك بالانتصار وهروب الطرف الآخر، عندها ستعلم بأن الحياة مستمرة، والطريق مفتوح أمامك، فلا تقف عند تلك اللحظات، وانطلق…».

أمل في الذاكرة
في كتابك الأول «مبادئ في الرسائل الإنسانية الذي جاء على جزأين اتفقنا أن تكون خطوة أولى على أمل إعادة طباعة مؤلفاتك الثمينة الواحد تلو الآخر، علّ الناس تستلهم منها حبّاً وخيراً، لكن الخطوة تعثّرت ووقفت عند طباعة هذا الكتاب في جزأين فقط، لكنني أذكر عندما سلّمتك صورة الغلاف، وكان الحكيم «شيفا» فيه ماثلاً بوجهٍ طافح الجمال، كم دامت الابتسامة على وجهك، وكم نظرت إليّ، ورميتني بسؤالٍ تعرف إجابته، وكان: «أنت تعرف شيفا» إذاً؟… وتعصف بي الذاكرة أكثر من ذلك عندما حدّثتني عن فلسفة «التوفيق» وعن معترضاتٍ لا بدّ للمرء الطموح من مواجهتها، وعن الدّقة في اللغة، وعدم الخلط في المصطلحات ودلالاتها، وعن أهمية الترجمة في حياتنا، وعن الروح وقناعاتك الجميلة فيها، والثيوصوفيا، والمزيد المزيد من المفاهيم التي شرعت لي الباب في الاطلاع عليها، وكان قسمٌ منها في مكتبتك ومؤلفاتك.

الصادق في زماننا
«ندرة اليازجي» رحلت بصمتٍ وبهدوءٍ، كما عرفناك، أنيقاً، وحاضراً بكلّ المحبّة والمودّة، لم يكن لك أي رغبة في العدائيّة، لكنك صاحب الحقّ، وصاحب الكلمة الفصل، فلم تتمكن يوماً من أن تكون موارباً، وعندما عرفت الحقيقة قلتها، وعندما واجهك الكثيف لم ترفضها، ولربما كان الصمت في سنوات عمرك كثيراً، والسبب لأن الأذن المصغية غير موجودة في زماننا. وإن كان رحيلك صامتاً؛ فأنا على يقينٍ بأن استقبال السموات لك كان في أبهى استقبالٍ وأجمل احتفال، فالصدق كان عنوانك الذي لم تتخلَ عنه يوماً.

مؤلفات ندرة اليازجي
جاءت كتب الباحث والفيلسوف «ندرة اليازجي» في مجلدات طبعت أكثر من مرّة، وهي: المجلد الأوّل: «الرسائل الإنسانية» ويشتمل هذا المجلد على كتابين هما:
1- رسائل في «حضارة البؤس» الذي وضعه في عام 1962م، 2- رسائل في «مبادئ الحياة» الذي صدر عن اتحاد كتاب العرب عام 1989م.
ويعدّ هذا الكتاب المدخل إلى فلسفته الأخلاقيّة.
المجلد الثاني: «دراسات في الحياة النفسيّة والاجتماعيّة» ويشتمل هذا المجلد على كتابين هما:
1- دراسات في الحياة النفسيّة والاجتماعيّة 2- دراسات في المثاليّة الإنسانية.
في هذا المجلد تحدث عن الحياة النفسيّة المتكاملة والمتوازنة التي يجب على الإنسان تطبيقها في النظام الاجتماعي، إضافة إلى الحديث عن مثاليّة الوجود الإنساني في الواقع الاجتماعي، وهدف منه إلى رفع الواقع إلى مستوى المثال.
المجلد الثالث: «دراسات في فلسفة المادة والروح» ويشتمل هذا المجلد على كتابين هما:
1- المبدأ الكلي وفي هذا الكتاب حاول «ندرة اليازجي» أن يحقق لقاء بين الحكمة القديمة والعلم الحديث، ويعدّ هذا الكتاب ثمرة اطلاعه على الفيزياء الحديثة. مع الأخذ بآراء علماء الفيزياء النظريين الإنسانيين.
2- فلسفة المادة والروح، وفي هذا الكتاب سعى للتوفيق بين المادّة والروح، أي تكامل المادة والروح في العلم والفلسفة والحكمة.
المجلد الرابع: «دراسات حضاريّة ومعرفيّة» ويشتمل هذا المجلّد على ثلاثة كتب تبحث في تنوّع الحضارات والثقافات، ووحدة العقل الإنساني، وتلاقي هذا التنوّع الحضاري والثقافي عبر الحوار الذي يؤدي إلى الاعتراف بالآخر.
المجلد الخامس: «الردّ على التوراة واليهودية» ويبحث هذا المجلد في المبادئ الإنسانية التي تؤدّي إلى تكامل العقائد المتنوّعة. في نطاق التآلف والمحبّة، الأمر الذي يؤدّي بدوره إلى وضع حدٍّ للتعصّب الدّيني والنزاع العقائدي والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، وإلى تكوين جديد لمجتمع إنساني مجرّد من النزاعات العرقيّة والعنصريّة.
6- المجلد السادس: «تطور العلم وبزوغ فجر الروح» يشتمل هذا الملف على المحاضرات التي ألقاها الباحث نفسه في مناسبات عديدة. وتدور مضامين هذه المحاضرات حول فكرة رئيسة ومركزيّة هي أن العلم في مسيرته الطويلة بدأ يتلمس طريقه في معرفة الحقيقة الروحيّة.
7- المجلد السابع: «دراسات في مبادئ الفلسفة السياسيّة الإنسانية».
آخر الكلام
ذكر الشاعر إياد قحوش على صفحته كلاماً اقتطفنا منه هذا المقطع الذي قال إنه من آخر ما قاله «ندرة اليازجي»:
Our corporeal entity will end in a coffin and a tomb, but our spiritual entity will ascend to a higher sphere where we overlook our earthly deeds in order to surpass them into a higher stage of consciousness, wisdom and love. Then we will be able to maintain our purity.
لدينا كيان مادي ينتهي في تابوت ومقبرة، ولكن الكيان الروحي لدينا يصعد إلى عالم أعلى حيث نغفل الأعمال الدنيوية لنتجاوزهم إلى مرحلة أعلى من الوعي والحكمة والحب. عندها نستطيع الحفاظ على نقائنا.

وأيضاً…
أمّا عن مكتبته العربيّة التي تحمل آلاف الكتب، فقد قدّمها هديةً للمركز الثقافي في بلدته «مرمريتا» التي ولد فيها وينتمي إليها، وقد جاهد طوال العمر في الابتعاد عن فكرة الامتلاك فوزّع ميراثه ولا يعرف عنه شيئاً، وكان منطلقاً باتجاه السماء دائماً، وصاحب الطلّة الأنيقة، والتهذيب العالي، في احترام الآخر، والتعامل مع الإنسان أيّاً كان، ومن أجمل ما كان يكرره على مسمعي: «إنّ الحياة جميلة، تستحق أن نعيشها». أن روح التفاؤل التي لمستها لديك، ونغمة الصوت التي لن أنساها ما حييت؛ بثتا فيّ شعور التقدير والاحترام، فكلّ ما قلته حفظته، وكلّ اللقاءات سجلّتها في الذاكرة، لأعود إليها فتشحذ همّتي، وتمنحني القوة، والإيمان.

أحبّوا أعداءكم
لقائي الأخير مع الباحث والمفكر «ندرة اليازجي» كان في ربيع العام 2011 وما زلت أذكر كلامك في «…إن لغة الضعيف هي لغة السلاح، والتدمير، والقتل، وسفك الدماء، ليس ما نراه اليوم هو قوّة، هذا هو الضعف، ولسرعان ما تنهار هذه المشاهد، إن لغة القوّة هي لغة المحبّة، لا يمكننا أن نتفوّق وننتصر إلا إذا أحببنا عدوّنا…». الرحمة لروحك قديسنا الدمشقي «ندرة اليازجي».

الراحل في سطور

ولد الباحث والفيلسوف «ندرة اليازجي» في بلدة مرمريتا في «حمص» في 17 تشرين الأول عام 1934
حصل على إجازة في الاقتصاد والسياسة.
درس الترجمة وأتقنها فأغنى المكتبة العربية بكثير من الكتب والمؤلفات التي تحمل مواضيع تنويريّة في الحكمة والفيزياء وتطوّر الإنسان وغيرها.
جاءت مؤلفاته بين القضايا السياسيّة والاقتصاديّة والروحيّة، وركز فيها على الأخلاق كداعم في إنقاذ المجتمع والارتقاء به، فدرس واهتمّ بالأديان ومبادئ الحكمة في الشرق والغرب والأساطير والحضارات البشريّة المتنوعة على مرّ التاريخ.
شارك في أهم المؤتمرات العالميّة الفكريّة والعلميّة.
نال جائزة الدولة التقديريّة للعام 2015 كأفضل باحث سوري.
توفي يوم الخميس الموافق لـ8 كانون الثاني 2016
ومن الكتب التي ترجمها نذكر:
الفكر الفلسفي الهندي- راداكرشنان ومور 1969.
ظاهرة الإنسان- تيارده شاردان 1973.
فكرة مقابل فكرة- ألدوس هكسلي 1979.
موضع الإنسان في الطبيعة- تياردة شاردان 1982.
التطور العلمي والروحي في الألف القادمة- رويير لنسن 1983.
علم النفس اليوناني- يولاند جاكويي- دمشق 1993.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن