من دفتر الوطن

الشر الأكبر

| حسن م. يوسف

قبل سنوات حاولت تعقب كل الشرور إلى منابعها، فوجدت أن التعصب هو رأس النبع الذي تنبثق جميعها منه، فالتعصب يسمم أي مفهوم أو قضية أو فكرة أو انتماء. تعصب هتلر لألمانيا وأراد من فرط حبه لها أن يضعها فوق الجميع، فكانت نتيجة تعصبه كارثة كونية أدت إلى مقتل عشرين مليون عسكري وخمسين مليون مدني، من بينهم تسعة ملايين ألماني.

قبل أيام سمعت رجلاً متعلماً ينفث الموت من فمه، مستخدماً ما لديه من معلومات مثيرة عن التاريخ العربي، ليؤكد لمستمعيه أنه ما من أمل فينا نحن العرب، فنحن على حد قوله «طائفيون بائسون محكومون بالانقراض الحتمي». ولأنني أعرف مدى تعصب الرجل لفرنسا لكونه أمضى بضعة أيام في باريس عاصمة النور، ذكَّرته بأن الفرنسيين لم يكونوا متحضرين دائماً كما يتحدث عنهم، بل كانوا «طائفيين بائسين» أكثر منا. فمذبحة يوم القديس بارتولوميو التي اقترفها الكاثوليك ضد البروتستانت في باريس وغيرها من المدن الفرنسية هي واحدة من أبشع المذابح الطائفية في تاريخ البشرية.

طلب أحد الحضور أن أحدثه بالتفصيل عن مذبحة يوم القديس بارتولوميو وأيده ثان، ونظراً لأنني كنت ملتزماً بموعد في مكان آخر فقد وعدت بأن أجيبهما كتابة وها أنذا أفعل.

في القرن السادس عشر انشقت الحركة البروتستانتية عن الكنيسة الكاثوليكية على يد الكاهن الألماني مارتن لوثر. حاولت الكنيسة الكاثوليكية القضاء على البروتستانتية بكل الوسائل، لكن البروتستانتية انتشرت بسرعة ووصلت إلى فرنسا. بعد وفاة الملك هنري الثاني عام 1559 أصبحت زوجته كاثرين دي ميديتشي هي الحاكمة الفعلية، لأن أولادها كانوا مجرد دمى بين يديها، وازدادت سيطرتها عندما آلت الأمور إلى ابنها تشارلز التاسع الذي كان طفلاً في التاسعة لم ينقطع عن البكاء طوال فترة تتويجه ملكاً!

بدأت ميديتشي تشعر بالقلق مع بلوغ ابنها واتخاذه كاهناً بروتستانتياً كمستشار له، غير أن كل محاولاتها فشلت في إبعاد الكاهن، وأثناء حفل زفاف ابنتها الأميرة مارغريت من هنري أمير مملكة نافار البروتسانتي في مثل هذه الأيام من عام 1572 تعرض الكاهن المستشار لمحاولة اغتيال، وخشية من أن يكشف التحقيق تورط الملكة في محاولة الاغتيال، أقنعت الأم ابنها بأن قادة البروتستانت الحاضرين في العرس يعتزمون التمرد عليه، فأمر الملك تشارلز رجاله باغتيال ضيوفه وهم نيام. ويقال إن الملكة كانت قد وزعت السلاح على الناس وهيَّأتهم، وعندما دقت أجراس الكنائس في غير موعدها فجر 24 آب الموافق ليوم القديس بارتولوميو، انقض الكاثوليك على البروتستانت، فقتلوا كل من يعرفونه منهم وكل من يشكون بإخفائه لهم، حتى امتلأ نهر السين بالدماء وأشلاء القتلى، كما نهبت محال وبيوت البروتستانت، ويقال إن بعض الناس استغلوا الفرصة لتصفية جيرانهم المزعجين، وأن بعض الأزواج والزوجات استغلوا الفرصة للتخلص من شركائهم، كما قام بعض التجار بقتل منافسيهم! ويقال إن عدد من قتلوا في تلك المذبحة لا يقل عن ثلاثين ألفاً، غير أن ماكسيميليان دي بيثون دوق سالي الذي كان معاصراً لتلك المذبحة يرى أن عدد الضحايا وصل إلى سبعين ألفاً.

الشيء الذي لا يصدق هو أن البابا جريجورى، هنأ ملك فرنسا على «هذا العمل الجليل»، الذي استأصل «طاعون الزندقة من المملكة الفرنسية الطاهرة»! والحق أنه ما كان من الممكن أن تقوم للفرنسيين قائمة لو لم يقم عقلاؤهم بوضع عقد اجتماعي جديد، يبعد الكنيسة عن السياسة ويلزم الفرد بمراعاة حقوق الآخر والدفاع عنها كشرط لحصوله على حقوقه المدنية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن