قد يكون فعلاً هو أقرب لملامسة الجمر أن نأتي على ذكر «احتجاجات» السويداء التي اندلعت يوم 19 آب المنصرم والتي لم يزل «جمرها» يقاوم الانطفاء لاعتبارات عدة تختلف كثيراً مع تلك التي مهدت لاحتجاجات آذار 2011، وإن كان من الواضح رجحان «البعد الداخلي» بكل حمولاته في الحالة الأولى، أي الاحتجاجات الراهنة، على حساب نظيره الخارجي الذي بدا وكأنه غير راغب في «الاستثمار» بالحدث على الرغم من مغرياته، هذا كان فعلاً معاكساً للحالة التي تعاطى بها هذا الأخير مع الأخيرة، أي احتجاجات آذار 2011، التي كانت تندرج في سياق عملية كبيرة تهدف في مراميها إلى تغيير كامل لوجه المنطقة، الفعل الذي كانت الولايات المتحدة تراه أمراً ممكناً انطلاقاً من الجغرافيا السورية، ولربما كانت الرؤية السابقة قد نجمت نتيجة مراجعة حسابات لرؤية كانت ترى أن الانطلاقة الأجدى لمسار من هذا النوع يجب أن تكون من نظيرتها العراقية الأمر الذي يفسر غزو العراق العام 2003 الذي كان مقدراً له أن يفضي للمرامي سابقة الذكر ليتكشف، بعد عقد، خطأ التصورات التي راحت عمليات إصلاحها تحتم الانزياح نحو تركيبة «مفتاحية» مجاورة وهي تمتلك الكثير مما تمتلكه السابقة مع إضافات أخرى لعل في الذروة منها تماسها المباشر مع كيان لا يزال أمنه يمثل أولوية لإستراتيجيات الغرب، ناهيك عن «حيوية» يمتلكها النسيج السوري والتي شكلت على امتداد القرن السابق محوراً لتحولات كبرى على امتداد المنطقة، وعبرها مثلت دمشق «بيضة القبان» التي ترجح كفة هذا المحور على ذاك، حيث المحاور هنا كانت نتيجة لحالة الاستقطاب التي فرضتها الحرب الباردة، ثم فرضتها أيضا الحالة التي قامت بعد انهيار منظومة هذي الأخيرة وصولاً إلى إمكان عودة الحالة السابقة في أعقاب اندلاع الصراع الروسي مع الغرب في أوكرانيا شهر شباط من عام 2022.
قد يكون أمراً طبيعياً أن يشهد أي بلد من بلدان العالم احتجاجات مطلبية رداً على تردي الأوضاع المعيشية لأغلب سكانه، فكيف والأمر إذاً في حالة بلد كسورية التي أدخلتها سنوات الحرب الإثنتي عشرة في دوامة أزمة اقتصادية باتت متعددة الجوانب تداخل فيها العامل الخارجي، كالعقوبات والحصار، مع الداخلي الذي اتسع طيفه بين حد يبدأ عند التدمير الحاصل على البنى التحتية، مرورا بارتفاع أسعار الطاقة التي تمثل العصب الذي تقوم عليه عملية الإنتاج برمتها، قبيل أن يصل إلى تنامي الآثار الناجمة عن الفساد الذي بات يمثل تهديداً حقيقياً لآليات عمل المؤسسات الحكومية بدرجة قد تصيبها بتشوهات يصبح علاجها معها صعباً من دون «جراحة» قد تكون هي الأخرى ذات تداعيات خطرة.
لا تشبه احتجاجات ربيع 2011 تلك الحاصلة صيف عام 2023، أوجه التشابه قد تكون متعددة ظاهرياً لكن «بواطنها» تظهر أن فوارق كبرى تجعل من تلك الأوجه «بوصلة معطلة» لا يصح استخدامها لتحديد الاتجاهات، صحيح أن كلا الاثنتين انطلقتا من دوافع مطلبية كان بعضها يستحق التوقف عنده لكن المناخات المحيطة كانت مختلفة جداً، ففي آذار 2011 كان ثمة مناخات إقليمية ودولية على حد سواء تشجع على حدوث تحولات في المنطقة يكون من شأنها أن تحدث تبديلا لمنظومة لا تزال تمثل عقبة كبرى أمام مشاريع طال انتظارها في الأدراج، اليوم لا تبدي تلك المناخات ميلاً نحو الاستثمار فيما يحدث، ولربما كان مرد ذلك إلى يقين، إقليمي ودولي أيضا، بعبث المحاولة بعدما تكشف أن السيناريو السابق كان يعاني عطباً بنيوياً ناهيك عن أعطاب في الآليات التي تعاطت مع الحدث، ولذا، والحال هكذا، لا يبدو أن هناك قوى خارجية قادرة على دفع تكاليف إعادة المحاولة من جديد، والشاهد هو أن أياً من تلك القوى لم يبد «اهتماماً» بما يجري باستثناء الاهتمام الإعلامي، بل إن أداء هذا الأخير كان لافتاً من حيث «الواقعية» والبعد عن التضخيم ما يشير إلى تغير مؤكد في طريقة التعاطي السياسي.
داخلياً، بدا الداعون لتردد صدى الاحتجاجات وتوسع مناطقها كمن يمارس النفخ في «قربة مثقوبة» ليس لأن تلك المناطق بعيدة عن المؤثرات التي قامت على أساسها الاحتجاجات في الجنوب، بل لأن الشارع السوري في سواده الأعظم بات يميل إلى الاستقرار كفعل لازم للحفاظ على ما تبقى من مرتكزات الدولة والمجتمع، والشاهد هو أن عدم تمدد الاحتجاجات، مما راحت تدعو إليه منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، كان فعلاً يشير إلى أن ثمة قراراً تخترنه الذات المجتمعية السورية يقول: بأن ما من أحد قادر على دفع أكلاف «حرب جديدة» وأن الواجب الآن هو ترميم الآثار التي خلفتها سابقتها بعيداً عن الشحن بشتى أنواعه، وبعيداً أيضاً عن الاستثمار في مطالب لا شك أن العديد منها يحظى بوجاهة طرحها كما يجب، لكن «منبر» الطرح، وآلياته، مهمان بدرجة لا تقل عن تلك التي تحظى بها الأولى.
هذا لا يشكل مسوغاً للاسترخاء و«النوم في العسل»، فالأزمة الاقتصادية الراهنة إذا ما استمرت، أو هي شهدت فصولاً أعتى، تهدد بحدوث تفسخات أكبر من تلك التي شهدها النسيجان المجتمعي والثقافي السوريان حتى الآن، ولا بد هنا أن نلحظ أن العامل الاقتصادي لا يزال يشكل رهاناً كبيراً، جنباً إلى جنب مع عوامل أخرى، لاستمرار وحدة الأراضي السورية، و«الإيجابي» فيما أظهرته الأزمة الاقتصادية الطاحنة هو أن التداعيات الحاصلة على الاقتصاد الحكومي، تراجعاً وتحسناً، كان صداه يتردد لحظياً في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية بشقيها في الشمال الغربي والشمال الشرقي من البلاد، وذاك مؤشر على أن تلك المناطق لا يزال «اختلاجها» مرتبطاً بنبض القلب السوري رغم ما راكمته سنوات «الجفاء» العشر الماضية.