قضايا وآراء

إفريقيا والتحرر من بقايا الاستعمار

| تحسين حلبي

في عام 1789 قامت في فرنسا أول ثورة في دولة أوروبية على النظام الملكي الاستبدادي وخلعت الملك لويس السادس عشر عن الحكم، وكان شعارها «أخوة ومساواة وحرية»، واستمرت تطورات هذه الثورة عشر سنوات إلى أن استقرت ارهاصاتها وبدأت حكومتها بشن حملات استعمارية استعبادية احتل بواسطتها نابوليون بلداناً كثيرة من بينها مصر وبلاد الشام التي هزم فيها على أسوار عكا، وكان التنافس الاستعماري والركض وراء المستعمرات يشعلان الحروب بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي بشكل خاص إلى أن اتفقت فرنسا وبريطانيا على اقتسام المستعمرات بينهما من دون شن حروب ضد بعضهما بعضاً، وبقيت هذه العلاقة منذ الحرب العالمية الأولى حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة في الخمسينيات التي تبنت خلالها واشنطن سياسة «تعبئة الفراغ» الذي تولد عن ضعف القوتين الاستعماريتين فرنسا وبريطانيا في المحافظة على مستعمراتهما، وبدأ الاحتلال والنفوذ الأميركي يحلان محل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في عدد من البلدان.

في أعقاب انهيار كتلة الاتحاد السوفييتي عام 1991 انشغلت فرنسا بالمحافظة على مصالحها واحتكاراتها في مستعمراتها السابقة خوفاً من تزايد النفوذ الصيني والروسي فيها، فنشرت القوات فيها باسم حمايتها من «الإرهاب» وهذا ما أدى خلال السنوات العشر الماضية إلى وقوع عدد من الثورات والانقلابات المناهضة للوجود الفرنسي والحكومات الموالية له في دول الساحل الإفريقي، وكان آخرها نهاية شهر آب الماضي في الغابون ومن قبلها في شهر تموز الماضي في النيجر وقبل ذلك في تشاد 2021 ومالي وبوركينا فاسو، وكانت فرنسا وأميركا وإيطاليا وبريطانيا قد بدأت بفرض شبه احتلال لليبيا لتقاسم الغنيمة بينها عام 2011 باسم محاربة الإرهاب.

وكعادته كان الاستعمار ينشئ لمجموعة من مستعمراته وخاصة في إفريقيا، منظمة أو جامعة تضم عدداً من الدول تتقاسم الدول الاستعمارية المصالح فيها، ففي عام 1975 أنشأت فرنسا وبريطانيا والبرتغال، وهي الدول التي كانت تستعمر معظم القارة الإفريقية، منظمة باسم «ايكواس» بحجة التعاون الاقتصادي، وضمت فيها 15 دولة إفريقية جميعها تقع غرب إفريقيا، ومعظمها يتحدث بالفرنسية، وأرادت استخدامها ضد أي دولة إفريقية تحاول مناهضة الهيمنة، وجمدت عضويتها فيها الآن أربع دول هي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا، وكان الهدف الفرنسي- البريطاني من تشكيلها هو فرض السياسات الفرنسية والبريطانية على هذه الدول والمحافظة على المصالح الاقتصادية فيها، ويبدو من الواضح الآن أن هذه المنظمة التي دفعتها فرنسا لتهديد النيجر بغزو عسكري لإعادة النظام الموالي لفرنسا، بدأت تتفكك ومن المحتمل أن تنضم إليها الغابون بعد الانقلاب الذي جرى فيها قبل أيام على الحاكم الموالي لفرنسا.

من الواضح أيضاً أن أي فراغ ينشأ في هذه الدول بغياب النفوذ الفرنسي، سيظل قابلاً للملء من روسيا والصين بموجب سجل العلاقات بين هذه الدول وكل من روسيا والصين، وذلك رغم النفوذ الأميركي القائم في عدد من الدول الإفريقية، وهذا يعني في النهاية أن معسكر الدول المناهضة للهيمنة الأميركية سيعمل على المحافظة على استقلال دوله عن فرنسا والغرب، لأن كل الدول الغربية والولايات المتحدة معها تتفق على حماية نفوذ الدول التي كانت قد استعمرت هذه الدول الإفريقية لكي تقتسم الدول الغربية المصالح فيها، وإذا كانت دول الغرب تتخذ مواقف موحدة ضد الدول الإفريقية الأربع التي تناهض النفوذ الفرنسي، فإن الضرورة ستتطلب من كل الدول الإفريقية المستقلة مثل الجزائر وتونس وجنوب إفريقيا وغيرها من الدول، الاصطفاف مع هذه الدول الأربع لصد محاولات إخضاع الدول الإفريقية للدول الاستعمارية التاريخية.

لا شك بأن تطوراً كهذا سيجعل العالم في السنوات المقبلة يشهد وجود كتلة عالمية قوية ستنضم إليها كل الدول التي تناهض استمرار هيمنة النظام الاستعماري الغربي – الأميركي على مقدراتها والعمل على تأسيس نظام يفرض العدالة على طريقة الشعوب وليس على طريقة الشعار الفرنسي الزائف للثورة الفرنســية عام 1789 أو طريقـة «الديمقراطيـة الأميركيـة» الزائفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن