من دفتر الوطن

مواسم «المونة»

| فراس عزيز ديب

مع كل عودةٍ لشهرِ أيلول أبدو كمن يقاوم فكرةَ اليأس المرتبطة بهذا الشهر، لن أكونَ كغيري يتذكره بما يعنيهِ من سوداوية الانتقالٍ من فصولِ الخضرة والعطاء إلى فصلِ الجفاف، لا أكترث لكلماتِ فيروز والرحابنة بأنهُ عادَ بورقهِ الأصفر، فالخضرة أساساً هي كناية عن استعادة الروح بعد جولةٍ من اليأس، لا أهتم كثيراً لفكرةِ أنه فصل الخريف وما تعنيهِ هذه الكلمة من بدايةٍ لنهايةٍ ما، ما أوحشَ خريف العمر وما أجملَ ربيعه؟ لكن المشتركَ بينهما أنهما لا يرتبطانِ كما يظن كثر بتعدادِ الأيام والسنين، بل بتعدادِ المرَّات التي ارتقت فيها الروح بين الأمل والتفاؤل، بين الحب والاحتضان عندها سأترك لكم خريف الأيام لأتمسكَ بربيع الحب، أما إن سألتموني لمن سنشبِّه انكساراتنا إن أقصينا أيلول؟

الجواب هنا بسيط:

من قالَ إن علينا أن نعمم هذه التشابيه؟ من قالَ إن الانكسارات متشابهة لدرجةٍ نختصرها بـ«ورقهِ الأصفر»، أليس هذا اللون هو لون الشمس التي تعطي لهذهِ الأرض الحياة؟

أعترف، حالي كحال كثر قد تخوننا الكلمات يوماً لتصبحَ أفكارنا في خريفها غير قادرةٍ على تشكيلِ عبارة واحدة نهرب فيها من ضيق فسحة الأمل، قد تضيع الابتسامة في صحارى الألم وكثبانِ الضياع، قد يكون الإحباط ملازماً لنا، لكن الحل لن يكون بالاستسلام له، أليسَ شهر أيلول هو ذاته عند السوريين هو شهر «المونة» وما تعنيه هذه العبارة من سلاسل خير؟

أفتخر بكوني ابن هذه المدن التي كانت جدران شرفاتها وأسطحة بيوتها تتزين بكل ما له علاقة بـ«المونة»، تأسرني حتى نهاية شهر أيلول مشاهدَ خيطان الخضار التي يتم تجفيفها لاستخدامها في فصل الشتاء، هناك من يظن أنها كانت مجردَ «مونة» منزلية، هي أشبه بخيطٍ من أمل يمتد بين السماءِ والأرض عساه يرتقي بنا حيث ينتصر الأمل، أعود إلى شريط ذكرياتٍ كانت فيه هذه المشاهد لوحة فنية متكاملة لكنها لم تكن لوحة للبيع، بل كأن من ابتكرها أرادَ أن يطبعَ في ذاكرتنا ما نعيشهُ لكي لا يبقى أثراً بعد حرب وبعد دمار، كان فيها أبناء هذه الأرض يبدعون باستخراج الأفضل منها، لكن ما الذي جرى؟

هناك من سيقول إن هذا الكلام إنشائي وهناك من سيذكّرني بأن «المونة» التي أتحدث عنها لم تعد أغلبية العائلات السورية قادرة على تجهيزها، من قالَ غير ذلك؟ لماذا يصر البعض على اعتبارنا منفصلين عن الواقع لكني ببساطة أحببت هنا أن أُقدم صورتين متناقضتين لمفهوم خريف العمر: الأولى يتغنى البعض بورقهِ الأصفر، والثانية كان يصنع بجفافه ما يسدُّ رمق العائلات في الشتاء، ألا يمكننا أن نستثمر في هذا التناقض بالمشاعر بالكثير من الملفات؟

هي رحلة البحث عن الأمل، التي علينا التمسكَ بها حتى يمل الصبر من صبرنا، عدا ذلك سأترك لكم ورقكم الأصفر وآخذَ معي شريط ذكرياتي لكن بالله عليكم جميعاً.. لا تتحدثوا باسمها!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن