إن ما جرى في العقد الأخير على المستوى العربي، بل في العقود الأخيرة يحتاج من المعنيين وقفة ووقفات للمراجعة، ومن عدة جوانب، أولها تغييب دور الثقافة والاستخفاف بها على كل مستوى، حيث صارت الثقافة تحصيل حاصل.
وفي أدنى سلم الأولويات، ومنذ أكثر من ثلاثة عقود كانت الهجمة منظمة على الثقافة والمثقفين، وبدأ الانتقاص من المثقفين تحت مسميات كثيرة منها: ثقافة المقاهي، كلام المثقفين، مثقف يبحث عن لقمة عيش، حتى صارت هذه المسميات قناعات لدى شرائح المثقفين أنفسهم، واليوم نكتشف أن هدم الثقافة والهوية كان غاية كبرى لدى المهيمنين على العالم، وتكشف الكتب والمقالات والدراسات و الوثائق الكثير من الحقائق حول محاربة الثقافة لأنها تشكل سياجاً حقيقياً للمجتمعات، وقد ظهر ذلك مع هجمة العولمة.
ثانيها إزاحة المثقفين الذين يملكون القدرة على التغيير، والاعتماد على مثقفين منتفعين، أو على مثقفي السلطة الذين كرستهم وعززت مكانتهم السلطات العربية بعد أن كانت تباشير النهضة العلمية والثقافية قد بدأت تعطي ثمارها الغنية، ولن أضرب الأمثلة حتى لا يعد ذلك إساءة لأحد، وربما كان إساءة لي أيضاً ضمن التصنيف العام الذي يتم إجراؤه، المهم أن مجمل الواجهات الثقافية التي سيطرت على المواقع الثقافية، وصدارة الثقافة كانوا ممن لا نتاج لهم، وربما لم يكتب واحدهم مقالة، إلا أنه يرى نفسه مستحقاً وقادراً على دفع الأثمان المترتبة عليه، وكذلك تراه السلطات العربية قادراً على تحقيق مصالحها كواجهة ثقافية، وقد شهدت الساحة الثقافية العربية في الستينيات من القرن العشرين نهضة مبشرة، إلا أنها بدأت بالتلاشي والذوبان منذ ما بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وصرنا نشهد غياباً حقيقياً للمثقفين القادرين تحت أسباب وذرائع منها الخلافات الأيديولوجية أو الطبقية، أو المصلحية، وجميعنا يذكر الأسماء والحالات ليحل محل هذه القامات قامات مقبولة أو أقل منها، ثم تتوالى المنظومة ليصبح المشهد مكتظاً بطبقة من المثقفين الذين يحققون مصالح من أوجدوهم وخلقوهم، لكنهم يفتقرون إلى أمرين اثنين: الثقافة والانتماء! ويظن كثيرون بأن هذين العنصرين غير لازمين! وسرعان ما تكشفت حقائق هؤلاء من الخواء الفكري والثقافي، ومن الانتماء، وهنا لا أنفي مفهوم الوطنية عن واحد منهم، ولكنني رأيت أن مفهوم المواطنة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالحهم، حتى لو انقلبوا على من أسدى إليهم يداً ليكونوا بعد لا شيء!!
والغياب الثقافي تمثلت خطورته في الابتعاد المطلق عن الثقافة الحياتية اللازمة المعاصرة والمماشية للحياة، وعن الفنون، وكان النكوص الخطير في اتجاهين مرسومين بعناية فائقة، الأول بالعودة إلى الفكر الديني والكتاتيب، وقد رأينا عدداً كبيراً من الذين نعدهم من الرموز في حلقات على الوسائل الحديثة يجلسون للتلقين والإجازات، وتنازلوا عن التلقي الأكاديمي العلمي الذي يمثلونه إرضاء لشريحة كبيرة من المجتمع، أما رأيتم العالم الجليل يطلب إجازة من أحدهم وهو يجلس بين يديه؟!
الإجازات والمشافهة والرواية كانت مرحلة مهمة في تاريخنا العلمي والثقافي، لكنها استنفدت أغراضها، وتبقى أهميتها الكبرى في مجال الحديث والمحدثين، والرحلة في طلب العلم، أما أن تصبح منهجاً، حتى للعلوم الدينية الفكرية فهذا أمر فيه نظر!.
هذا النكوص، الذي وصل إلى العلماء الذين نجلهم خلق حركة ردة كبيرة على مستويات المثقفين والعامة، وفي ظل غياب الحركة الثقافية والفنية اللائقة كانت هذه الثقافة المرسومة بعناية ومؤامرة من دوائر القرار العالمية، والتي أحدثت شللاً ثقافياً أسهمنا فيه بشكل مباشر دون أن ندري العاقبة، التي أنتجت متطرفين لا يقبلون الآخر في كل شريعة ومذهب وطائفة!
أما الاتجاه الثاني والذي لا يقل خطورة عن هذا، بل هو أشد خطورة، فهو ممن لم ينضووا تحت الردة الثقافية، والذين وجدوا في الثقافة الاستهلاكية والفن الرخيص ملاذاً، فقدموا نموذجاً مشوهاً للثقافة والفن، ما وسّع المسافة بين التيارات الفكرية، فساد فن أطلقت عليه تسميات عديدة، وسادت ثقافة لاتحمل سمة الثقافة، ووفق خطة ممنهجة، ومن ذلك ما رأيناه من شيوع الأدب الإباحي الذي يعتمد على فضح المجتمعات بما فيها وبما ليس فيها، والروايات التي تتناول الحياة السرّية في المجتمع تحت ذرائع عديدة، وتم تسخير عدد من الأديبات الشابات لخدمة هذا التيار..!
لم يكن كل هذا ليحدث لولا تغييب الثقافة الجديرة، والمثقفين الحقيقيين بالقوة من المتضررين من الوعي المجتمعي والثقافي، وقد أشار كتاب عالميون كثر إلى أن الصحوة التي حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين تم التخطيط الدقيق للتخلص منها، هذه الصحوة التي استفادت منها المجتمعات بما فيها النامية وكان لابد من إنهائها بطريقة أو بأخرى!.