قضايا وآراء

الاستثمار في رأس المال البشري.. الشباب هم المستقبل

| الدكتور قحطان السيوفي

بجري إرساء أساس «رأس المال البشري» للشباب الذين يصنعون المستقبل من مرحلة الطفولة.

و»رأس المال البشري» مصطلح أنشأه غاري بيكر، وهو خبير اقتصادي من جامعة شيكاغو؛ يعني مخزون المعرفة والعادات والسمات الاجتماعية والشخصية، بما في ذلك الإبداع، المتمثل في القدرة على أداء العمل لإنتاج قيمة اقتصادية، وهو القدرة الكلية للشعب الذي يمثل شكلا من أشكال الثروة التي يمكن توجيهها لتحقيق أهداف الأمة.

«رأس المال البشري»، مفهوم يعبر عن شيء معنوي غير ملموس، ويمكن تعريفه بوصفه يمثل المهارات والقدرات والإمكانات التي يمتلكها الأفراد في مجتمع ما، في وقت ما، ومن أهم خصائصه القدرة على النمو والتطور من خلال الاستثمار في تعليم وتنمية المهارات الشخصية والاجتماعية، أو الاستثمار في الأصول غير الملموس، شأنه شأن رأس المال المادي، ويعرّف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الاستثمار في الموارد البشرية على أنه كل ما يزيد من إنتاجية العمال والموظفين من خلال المهارات المعرفية والتقنية التي يكتسبها الفرد.

وهو المكون الأهم في رأس المال البشري ويعبر عن الكفاءات والمهارات والمؤهلات، التي يكتسبها الأفراد من خلال التعليم والبحث والتدريب، واكتساب المهارات التي يحتاج إليها سوق العمل، وهي أهم صور الاستثمار في رأس المال البشري، مثل تنمية الطفولة المبكرة الذي يمكن أن يساعد على تمكين الشباب من إطلاق طاقاتهم الكامنة وإرساء الأساس لمستقبل زاهر.

في كل العالم، هناك نحو شخص واحد من بين كل خمسة شباب تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً عاطل عن العمل، أو يمثل جزءاً من قوة العمل لكن من دون عمل، ونحو ستة من بين كل عشرة أطفال في سن العاشرة في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل لا يستطيعون قراءة فقرة بسيطة وفهمها.

هذه الأرقام لا تدعو للتفاؤل، ولاسيما فيما يخص الابتكار والنمو الاقتصادي. وفي 2050، سيشكل الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما اليوم أكثر من 90 في المئة من القوى العاملة في أوج سن العمل.

في تقرير صدر أخيراً عن آثار جائحة كورونا في الشباب، فإن تراكم رأس المال البشري، أو الصحة والمهارات والخبرات التي تسهم في الإنتاجية يبدأ مبكراً، فتنمية المهارات اليوم تعتمد على المهارات التي بنيت في وقت سابق، وبمناسبة اليوم العالمي للشباب، نعرض بإيجاز الاستثمارات المهمة التي يتعين على المجتمعات والحكومات القيام بها الآن إذا أرادت تمكين هذه الأجيال القادمة، وإطلاق طاقاتها الكامنة، لمستقبل مستدام يسوده السلام والازدهار، أهمها الاستثمار الآن للتعافي من الانتكاسات الهائلة في مسار تنمية الطفولة المبكرة التي وقعت في أثناء جائحة كورونا مثلاً، ويجري إرساء أساس رأس المال البشري للشباب خلال مرحلة الطفولة وأعوام الدراسة.

تظهر أدلة من بعض الدول النامية أن كورونا أدت إلى خسائر هائلة في المهارات المعرفية واللغوية والاجتماعية، وهي خسائر ستترجم إلى انخفاض بنسبة 25 في المئة في الدخل المتوقع في أوج سن العمل.

حتى قبل كورونا، كانت الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل تعاني أزمة تعلم، وحولت الجائحة الأزمة إلى كارثة، ويعيش أكثر من مليار طفل في دول أغلقت المدارس لمدة عام على الأقل، علماً أن المدارس تلعب دوراً كبيراً في تعويض كل هذه الخسائر في المهارات والصحة العقلية، ومساعدة الشباب على الانتقال إلى العمل حيث يمر الفتيان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً بمرحلة حرجة أخرى أثناء انتقالهم من بناء رأس المال البشري إلى استغلاله.

يمكن للأزمات والصدمات غير المتوقعة أن تغير آفاق الشباب بشكل كبير، ويترك ذلك آثارا دائمة في مستقبلهم.

كثيراً ما تعالج السياسات الدولية أيضاً مسألة هروب رأس المال البشري، وهو فقدان الأشخاص الموهوبين أو المدربين من بلد استثمروا فيهم، إلى بلد آخر يستفيد من وصولهم من دون الاستثمار فيهم وهذه مشكلة صعبة تعانيها الدول النامية.

بالنسبة للدول العربية، ما تأثير رأس المال البشري في الإنماء الذي يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية التي تتطلع إليها شعوب هذه الدول؟

هناك هدر في الموارد البشرية العربية، حيث لا يتم استخدام الموارد والإمكانيات البشرية بشكل أمثل، وهذا يمكن تفسيره بتدني نسب الإنفاق على التعليم في الدول العربية مقارنة بغيرها من الدول النامية، إضافة إلى عدم استخدام هذا الإنفاق بشكل أمثل، وأيضاً إلى عدم ملاءمة مخرجات التعليم العالي لحاجات ومتطلبات سوق العمل في الدول العربية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى ضعف مساهمة رأس المال البشري في النمو.

والدول العربية، بدأت غداة حصولها على الاستقلال السياسي، في استنساخ تجارب الدول السابقة في التقدم، رأسمالية كانت أو اشتراكية، كسبيل للخروج من وضعية التخلف ولحاقاً بغيرها من الأمم التي سبقت في طريق التقدم والحداثة، غير أن الطريق الذي انتهجته الدول العربية للأسف لم ينته بها إلى تحقيق ما كانت تطمح إليه من آمال.

في ضوء تعاظم أهمية رأس المال البشري بدأت الدول العربية في إيلاء جهود تنمية رأس المال البشري أهمية كبرى وفي الاهتمام بتحسين مؤشرات رأس المال البشري بأبعاده المختلفة مثل الصحة والتعليم، والتدريب، والبحث والتطوير.

الدول العربية الغنية بمواردها الطبيعية وفي مقدمها النفط، تتسم بضعف وتخلخل وتركب «البنى الإنتاجية» فيها، وهذه بدأت بتطوير الموارد البشرية، بالمقابل ساهم تطوير رأس المال البشري في نقل بعض الدول، التي كانت تعد نامية حتى وقت قريب، منتصف القرن العشرين، إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة.

حالة كوريا الجنوبية هي مثال ونموذج هذه التجربة، وتتميز بمرتكزاتها التي تتمثل في زيادة الإنفاق على التعليم والصحة، وبما يتماشى مع الاتجاه إلى بناء اقتصاد معرفي متقدم، الأمر ينطبق على دول جنوب وشرق آسيا (النمور الآسيوية) التي ركزت على تنمية رأس المال البشري في دفع التنمية.

ختاماً، الاستثمار في تنمية الطفولة المبكرة، يعتبر بداية صحيحة لتمكين الشباب من إطلاق طاقاتهم الكامنة وإرساء الأساس لمستقبل الشباب الزاهر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن