تظهر الساحة السورية في غضون المرحلة الراهنة مشهدان اثنان لربما كانا مرتبطين ببعضهما أو أن أحدهما كان نتيجة للأول، والعكس صحيح أيضا، المشهد الأول هو التصعيد الحاصل ميدانياً على خطوط التماس في مناطق الشمال الغربي من البلاد بالتزامن مع نظير له حاصل في الشمال الشرقي منها على خلفية توتر العلاقة ما بين مكونات الفصائل المنضوية تحت راية «قوات سورية الديمقراطية – قسد» لاعتبارات تتعلق أولاً بمنظومة ترى أن «شرعيتها» تقوم، ويجب أن تظل، على عصبية عرقية معينة، حيث الفعل هنا يعزز الآمال بنجاح «المشروع» خصوصاً إذا ما استمر شريانه الخارجي بتقديم الدعم الأمر الذي تحوطه الشكوك، وهو ما يفسر محاولتها الرامية لخلق «مشروعية» داخلية تكون بديلة للخارجية إذا ما انقطع «شريانها»، ويفسر أيضاً تسمية العملية التي أطلقتها تلك الميليشيا ضد العشائر العربية بـ«تعزيز الأمن» التي انطلقت يوم 27 آب الماضي ولما يهدأ فورانها بعد.
بالمقابل، أي في النصف الثاني من الساحة، هناك مشهد آخر يبدي ميلاً كبيراً لتفعيل حراك سياسي يكون من شأنه تعطيل حقول الألغام المنتشرة على امتداد الجغرافيا السورية بدرجة يصبح معها السير عليها محفوفاً بمخاطر عدة انطلاقاً من أن حالة الربط «على التسلسل» التي اصطنعتها واشنطن للوصل بين تلك الحقول، وتلك الحالة، تشير إلى أن انفجار لغم هنا يصبح نذيراً أكيداً بانفجار لاحق لآخر هناك والمسألة لا تعدو أن تكون مسألة وقت لا أكثر، والشاهد هو أن عواصم «ثالوث أستانا»، مضافاً إليها دمشق، كانت قد شهدت في غضون الأسابيع الثلاثة الماضية حراكاً يسعى في مراميه لإنتاج عمل متكامل يكون كفيلا بمواجهة حملة التصعيد الأميركية المتزايدة في الشرق السوري، والتي من الصعب الآن التكهن إلى أين تريد الوصول، لكن المؤكد أن أحد أهم الأهداف هو التضييق على دمشق عبر عزلها عن بغداد التي أظهرت في الآونة الأخير ميلاً للعب دور أساسي فاعل في المنطقة وهي تلحظ من خلاله «مفتاحية» دور دمشق التي إن لم تستعد استقرارها فلن يكون متاحاً للمنطقة أن تفعل، والمؤكد هنا أن بغداد تقاوم، بكل ما تستطيع، المشروع الأميركي الرامي لقطع حدود الجوار الجغرافي مع دمشق بكل ما يرمي ذلك الفعل من حمولات على أزمة تتهدد الكيان السوري جنباً إلى جنب عوامل أخرى لا تقل أهمية عن الأولى، لكن الثابت الآن هو أن بغداد تدرك المخاطر المتولدة عن فعل من هذا النوع الذي سترتد حمولاته عليها كمرحلة ثانية بعد أن تنتهي الأولى إذا ما نجحت.
في الغضون برزت في هذا النصف الثاني الأخير محاولات روسية حثيثة لكسر حالة «الستاتيكو» القائمة ما بين دمشق وأنقرة على الرغم مما حققته تلك المحاولات في غضون عام كامل على خروجها للعلن، وفي هذا السياق برز تصريح لافت لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال فيه: إن «اتفاق أضنة لا يزال ساري المفعول، ولم يندد به أحد»، والراجح هنا هو أن موسكو لا تزال ترى في ذلك الاتفاق، الموقع بين الطرفين عام 1998، إطاراً صالحاً لتحديد العلاقة بينهما مع إمكانية لإدخال تعديلات عليه برضا الطرفين، على الرغم من أن أنقرة لا تبدي ميلاً لهذا الاتجاه انطلاقاً من أن الفعل لا يلبي «طموحاتها» التي تنبع أصلاً من حال الاضطراب السوري الذي تسوقه لتبرير تلك «الطموحات»، ومع ذلك فإن الرؤية الروسية تبدي رهاناً على التوافقات التي حصلت في إطار «الرباعية»، التسمية التي أطلقت على اجتماع نواب وزراء خارجية سورية وإيران وروسيا وتركيا على هامش الجولة العشرين من مسار أستانا، ومفادها أن الوجود الأميركي على الأراضي السورية يمثل المعيق الأول أمام أي تسوية سياسية للصراع السوري، وهو ما أشار إليه لافروف بوضوح في حديثه آنف الذكر عندما قال: إن «مشكلات التطبيع بين أنقرة دمشق متعلقة بالأنشطة غير القانونية للولايات المتحدة في شمال شرق سورية»، قبيل أن يضيف إن واشنطن «تغذي إلى حد حاسم النزعة الانفصالية للمنظمات الكردية المتطرفة التي يصنفها الأتراك على أنها تهديد لأمنهم».
هذا الكلام، الذي يظهر تفهماً لـ«مخاوف» أنقرة الأمنية من جهة، ويذكّر من جهة ثانية بالتلاقي بين أطراف «الرباعية» عند الهدف «الأكبر»، يمثل رهاناً روسياً على أن التلاقيات يجب أن تجبَّ الافتراقات مهما تعددت أشكالها، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، إذ لطالما كان التلاقي بين أنقرة ودمشق عند خط «ما»، سيشكل تحولاً كبيراً في المشهد السوري الذي بات صراعه الأهم هو ذلك «المفتعل» في الشرق منذ حين، و«المنفجر» قبل نحو شهر، فصراع الشرق بات اليوم محدداً لكثير من معالم التسوية السياسية، بل ومن الممكن القول: إن التوازنات التي سترسو عليها «معادلة» الشرق السوري ستكون محددة لتوازنات إقليمية ستصيب أولاً دول الجوار، ثم تصيب بالضرورة، بدرجة أقل، الجوار الخليجي.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأمس، هو غيره ما بعد سوتشي 4 أيلول، ومن الراجح أن أردوغان ما بعد «فشل» محطته آنفة الذكر، سيذهب نحو مراجعة حساباته التي من بينها الوجود العسكري على الأراضي السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فعلاً من هذا النوع سيكون «زلزالياً» بالنسبة لمشروع تمددي لم يحظ بأسباب النجاح، ولذا يصبح لزاماً صياغة «إخراج» مناسب تلعب فيه المؤثرات والبصريات دوراً وازناً، ولا بديل من نجاح المشهد.