ثقافة وفن

أحمد حسن الزيات.. رائد الصحافة الأدبية العربية … واحد من كبار النهضة الأدبية وأشهر بلاغييها ومؤرخيها

| أنس تللو

ثلاثةُ كتَّابٍ كان لكلٍّ منهم طريقةٌ خاصةٌ في الصياغة والتعبير ؛ مصطفى صادق الرافعي، وطه حسين، والعقاد، قاسمَهم الزياتُ أساليبَهم فحظيَ من تقطيرات البلاغة بالقسم الأوفر، ونالَهُ من نصاعةِ الأسلوب ووضوح البيان والإيجاز ما لم يصل إليهم، فكان يجاريهم طوراً ويسبقهم أحياناً، إذ مقالاتُهُ موجَزة، وكلماتُهُ مُهندَسة وجُملُهُ مزدوجة وألفاظُهُ منتقاةٌ بعناية فائقة.

ازدهار الثقافة

في عصرٍ كانت فيه مصرُ تزدانُ بكوكبةٍ من فحول الشعراء وكبار الكتَّاب، ظهر أحمد حسن الزيات بأسلوبه الرائق وبيانه الصافي ليلج إلى هذه الكوكبة بقوة، ثم ليتبوأَ فيها مكان الصدارة.

ولد الزيات عام 1885 في قرية متوسطة الحال من قرى مصر تعيش على الزراعة، بدأ دراسته في الخامسة من العمر في كُتّاب القرية، فتعلم القراءة والكتابة، ثم التحق بالجامع الأزهر وهو في الثالثة عشرة من عمره، ودرس فيه عشر سنوات، وأحسَّ في نفسه بميل شديد إلى الأدب، فاتجهَ نحوه، وأخذ يواظب على دروس أساتذته، ويستمع إلى شروحهم للمعلقات وشروحهم لكتاب «حماسة أبي تمام وكتاب «الكامل» للمبرّد، ثم ربطه حب الأدب بأئمته وأعمدته آنذاك فاتصل بطه حسين، ومحمود حسن الزناتي، وصاروا يدرسون معاً دروس الأزهر الذي فتح لهم آفاقاً واسعة في الأدب والنقد، وأثّر فيهم جميعاً تأثيراً قوياً، وغدوا يترددون معاً إلى «دار الكتب المصرية» لمطالعة عيون الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء.

الكبار الأصدقاء

وحين تم افتتاح الجامعة الأهلية المصرية عام 1908 التحق الأصدقاء الثلاثة الزيات وطه حسين والزناتي للدراسة فيها، ونهلوا علوماً شتى من طائفة من المستشرقين الذين كانوا يدرِّسون فيها، وكان الزيات يدرُسُ في الجامعة الأهلية مساءً، ويدرِّسُ في المدارس الأهلية صباحاً، وفي الوقت نفسه يدرس اللغة الفرنسية ؛ وحصل على إجازة الليسانس عام 1914.

وفي أثناء الدراسة والتدريس تزامل الزيات مع عدد من الأدباء الأكفياء، مثل: العقاد، والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو حديد، وتوطدت بينهم العلاقات.

اختارته الجامعة الأميركية بالقاهرة رئيساً للقسم العربي بها في سنة 1922، وانتسب إلى كلية الحقوق الفرنسية، وكانت مدة الدراسة فيها ثلاث سنوات اثنتان منها في مصر والثالثة في فرنسا؛ حصل بعدها على ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة عام 1925.

وفي عام 1929 عينته الجامعة الأميركية أستاذاً في دار المعلمين العالية ببغداد ؛ ومكث هناك ثلاثَ سنوات، وكان يُكثر من الاختلاط بالأدباء والشعراء العراقيين، وإلقاء المحاضرات.

الأستاذ المرموق

لقد غدا الزيات أستاذاً مرموقاً بارزاً يُشار إليه بالبنان، ولكن يبدو أن التدريس لم يكن منتهى أمله ومبلغ رضاه ؛ وعاودته نزعة الفن والأدب ؛ فما كان منه إلا أن ترك التدريس فجأة، وتفرغ للصحافة والأدب، وجال في فكره أن ينشِئَ مجلةً للأدب الراقي والفن الرفيع ؛ فتمكن بتصميمه وبمساعدة أصدقائه من إنشاء المجلة الأدبية الأشهر في ذاك الوقت ؛ مجلة الرسالة.

مجلة الرسالة

صدر العدد الأول من «الرسالة» في 15 كانون الثاني عام 1933، وتمكنت على مدى واحد وعشرين عاماً من أن تستقطب أرباب الفصاحة والبلاغة، فكانت تجتمع فيها أشعار فحول الشعراء، ومقالات كبار الكُتّاب، ودرر أئمة اللغة والبيان، وأساطين العلم والفكر، وأخذ الكتَّاب يتنافسون في الوصول إلى صفحاتها، حتى لقد أصبح الكاتب الذي تنشر له «الرسالة» مقالة أو قصيدة يزهو بنفسه وكأنه حصل على إجازة جامعية مرموقة ؛ فقد أصبح من كُتّاب الرسالة.

الرسالة والأقلام

وتتالى عليها الكتاب: أمثال العقاد، وأحمد أمين، ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد زكي، ومصطفي عبد الرازق، ومحمود محمد شاكر، ومحمد عبد اللـه عنان، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو القاسم الشابي، وغيرهم، وكان يتوج كتاباتهم مقالة للزيات يفتتح فيها المجلة، ومن كتاباته ما توَّج به العدد 202 عام 1937من مجلته الرسالة رثاءً للأديب مصطفى صادق الرافعي، كتب يقول:

(… شديدٌ على الرسالة أن تنعى الرافعيَّ إلى ديارِ الحنيفةِ وأقطارِ العروبة بدلَ أن تزفَّ إليها كعادتها درةً من غوصِ فكره وآيةً من وحي قلمه، وعزيزٌ على هذا القلم أن يتقطَّرَ سوادُهُ على الرافعي، وهو نورُهُ في مدادِه وسندُه في جهادِه وصديقُه في شدته.).

وفي نهاية المقال يقول:

(… الرافعيُّ أمةٌ وحدَهُ، لها وجودُها المستقل وعالمها المنفرد ومزاجُها الخاص، وأكثرُ الذين كرهوه هم الذين جهلوه، كرههُ الأدباء لأنه أصحرَ لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينه وبينهم، وكرهه المتأدبون لأنه رفع مقياس الأدب فوسمهم بالعجر عنه، وأنكره العامة لأن الأمر بينهم وبينه كالأمر بين العمى والنور، إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي اللـه في قرآنه، وفهِم إعجاز الفن في بيانه، وأدرك سر العقيدة في إيمانه.

ذلك بعضُ الرافعيِّ الإنسان ؛ أما الرافعيُّ الفنان فموعدُكَ به خمودُ الحزنِ وانكسارِ المصيبة.).

واستمرت مجلة الرسالة حتى احتجبت في بدايات عام 1953م.

جمع الزيات مقالاته التي نشرها في مجلته، وأصدرها في كتابه «وحي الرسالة» في أربعة مجلدات.

أما مؤلفاته فهي عديدةٌ منها:

«تاريخ الأدب العربي» 1916.

«في أصول الأدب» 1934.

«دفاع عن البلاغة» 1945.

وقد استخدم الزيات بيانه الراقي وأسلوبه البليغ في التعريب، فنقل للعربية عدة كتب، منها:

«آلام فرتر» لجوته1920.

رواية «روفائيل» للأديب الفرنسي لامرتين 1925.

ومما يُذكر عن الزيات أنه كان متماسكاً هادئ النفس، فلم يخاصم أحداً، ولم يدخل في المعارك الأدبية التي حفلت بها الحياة الثقافية في مصر.

وقد لقي أدبه الرفيع وبيانه العالي حظوة كبيرة جعلته محلَّ تقدير المجامِع والهيئات العربية، فاختير عضواً في المجامع اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد، وكرّمته مصر بجائزتها التقديرية في الأدب عام 1962.

توفي عام 1968 عن ثلاثة وثمانين عاماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن