ثقافة وفن

يمكن أن يقاد الإنسان بقدره لكن يمكن أن يرفض أن يتبعه … «قدوم الإقطاع الجديد» هل يمثل العودة إلى الوراء بشكل أكثر قسوة من العبودية القديمة؟

| إسماعيل مروة

«قدوم الإقطاع الجديد» عنوان يحمل في معانيه الكثير من الغرابة والتساؤلات، ويدفع إلى كثير من التفكير في قضايا قد لا تخطر في بال الواحد من المفكرين، والعودة هي إعادة ما قد كان، وتعني في الفهم أن التاريخ يعيد نفسه من جديد، وهناك من المفكرين والمؤرخين من ناقش فكرة تكرار الحوادث من جديد، لذا يبدأ المؤلف جويل كوتكين كتابه بعبارة فولتير التي تفصل الأمر: «التاريخ لا يكرر نفسه أبداً، الإنسان هو الذي يفعل ذلك أبداً»، فكيف يكرر الإنسان نفسه؟ وكيف تتكرر الحوادث ولا تتكرر؟ وما مشكلة الطبقة الوسطى؟ وما علاقتها بعودة مفهوم الإقطاع الجديد؟ هذا ما يقدمه الكتاب الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب من تأليف كوتكين وترجمة الدكتور نايف الياسين، جاء الكتاب في 375 صفحة من القطع الكبير، قرابة 40 بالمئة من الكتاب بقيت بالانكليزية دالة على المفاتيح والمصادر لهذا الكتاب الخطير بكل طروحاته.

الفكرة واللوحة

الكتاب بعنوانين، عنوان رئيسي هو«قدوم الإقطاع الجديد» وفرعي «تحذير إلى الطبقة المتوسطة العالمية»، فهو كتاب لم يتوجه لنا أساساً، ولسنا المعنيين به ولو بطرف خفي لو لم تتم ترجمته، واللوحة أظنها وإن حملت اسماً لمصمم محلي للغلاف، إلا أنها دالة على الكتاب الأساسي وصورته، وهيئة الأشخاص في اللوحة تعود إلى الفن العربي من حيث الأزياء والهيئة والفكرة، وهذه اللوحة تعطي فكرة عن الكتاب ومضمونه في مفهوم الرق والعبودية والسيادة.. ولنبدأ من أفكار المقدمة إذ يقول الكاتب: لا يتحرك التاريخ دائماً إلى الأمام، إلى ظرف أكثر تقدماً واستنارة.. على حين يمكننا وضع تاريخ لنهاية الإمبراطورية الرومانية في الغرب، فإن مسار التردي الثقافي استمر على مدى قرون، ويتضح المسار الرجعي بحلول القرن السادس أو السابع الميلادي، مع موت التعلم، ونشوء التعصب الديني، وتراجع المدن وانهيار التجارة، والركود المالثوسي، فقد كان عدد سكان أوروبا في عام 1000م هو نفسه الذي كان عليه قبل ألف عام، وتلاشت الطبقات الوسطى..» ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين ما يطرحه المؤلف من معلومات تاريخية وسيرورة حضارية، وما نحن عليه اليوم فسنفهم معنى عودة الإقطاع الجديد كما أرادها، مع تقلص الموارد والإمكانيات والملكيات الفردية للفلاحين، وذلك في حركة ارتدادية لمصلحة المالكين.

فماذا يجري اليوم؟ وما علاقته بما كان؟ وبوضوح تام يتحدث الكاتب عن المقابل الموضوعي لتلك الحالة فيقول: «تتمثل الحالة الأوضح في عصرنا في تركز الثروة في أيدي عدد أقل من الناس، بعد حقبة من المرونة والارتقاء الاجتماعيين القويين، إذ شهد النصف الثاني من القرن العشرين رخاء متنامياً بمشاركة واسعة في العالم المتقدم مع توسع في الطبقة الوسطى وارتقاء الطبقة العاملة، وهو تطور حدث أيضاً في كثير من البلدان النامية، اليوم، تصب مزايا النمو الاقتصادي في معظم البلدان على نحو رئيسي في أيدي الشريحة الأكثر ثراء من السكان.

يشير أحد التقديرات التي تقتبس على نطاق واسع إلى أن الحصة من الثروة العالمية التي يمتلكها أغنى 1 بالمئة سترتفع في عام 2030 لتصبح ثلثي الثروة العالمية!

في أولى صفحات الكتاب يبشر الكاتب وهو الاستاذ المتخصص في أرقى الجامعات الأميركية وأصدر مؤلفات عدة تصب في المنحى ذاته، بأن ثلثي الثروة العالمية ستكون في تاريخ قريب 2030 بيد 6 بالمئة من سكان العالم، وهذا التاريخ قريب وقابل للتحقيق والتحقق، بل إن القراءة المباشرة تظهر عمق رؤيته وصدقيتها على مدى قريب لا يتجاوز السنوات السبع ولا ينتمي قوله إلى الخيال العلمي أو الوهم السياسي.

التدرج إلى عالم اليوم

الكاتب كوتكين متخصص في الدراسات الحضرية، لذا جاءت دراسته مستوعبة وشاملة في سبعة أجزاء، وكل جزء قسم إلى فصول، فكانت واحداً وعشرين فصلاً، فبعد تمهيده عن عودة الإقطاع، العنوان المفتاحي الملغز، تناول في الفصل الأول المراحل التاريخية التي وصلت إلى انهيار الليبرالية ليبرز الإقطاع «اليوم، ثمة تحول وابتعاد عن الليبرالية الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، والحكام المستبدون يحكمون سيطرتهم على السلطة في دول بدت سابقاً أنها على مسار تحرري»، والكاتب بعلميته لا يتبع المسار ويحكم بأنه لابد كائن بل يضع احتمالات يمكن أن توقفه، ويحدد السبل للخلاص من الإقطاع الجديد بما يمثله من قسوة: «ثمة حاجة إلى منظور جديد، لكن مثل هذا المنظور يمكن أن ينشأ فقط عندما يجري الإقرار بواقع نشوء الإقطاع الجديد على نطاق واسع وتفهم مخاطره، لا يزال هناك وقت لتحدي هذا التهديد للقيم الليبرالية، كتب الروائي السوفييتي العظيم فاسيلي غروسمان: يمكن أن يقاد الإنسان بقدره لكن يمكنه أن يرفض أن يتبعه».

ثم يتتبع الكاتب الأوليغاركية ونشوء الإقطاع الجديد المعتمد على أخطر مكون وهو التكنولوجيا ليتحدث عن كاليفورنيا وكيفية انتقالها من حالة حياتية إلى أخرى، لتصبح التقانة هي ذراع الإقطاع الجديد الذي يختلف في أدواته وقوته وسيطرته، «في العصور الوسطى، كانت قوة النبلاء تستند إلى السيطرة على الأرض والحق بحمل السلاح، أما قوة الارستقراطية التكنولوجية الصاعدة، فهي مستمدة بشكل رئيسي من استغلال الاحتكارات الطبيعية في الشركات القائمة على الشابكة وتتمثل الأطراف الفائزة في التنافس الرقمي في عدد قليل من الشركات التي تعمل بشكل رئيسي في وادي السيليكون وفي منطقة بيوجيت ساوند» هذه الموازنة الواضحة بين الإقطاعين الجديد والقديم تظهر مقدار الخطورة، فالإقطاع القديم قابل للمواجهة بالسلاح والأشخاص، أما الإقطاع الجديد فهو فائم على التكنولوجيا وصراعات رقمية لا يقدر الإنسان على مواجهتها في مجتمع مغلق محدد، طور نفسه بالتكنولوجيا، وباتت حكراً عليه، فأي نوع من المواجهة ستكون مع هذا العالم، وخاصة للأغراب عنه؟ وهذا ما جعل المؤلف يبدأ فصله باقتباس يختصر المعضلة، والاقتباس من عالم الاجتماع العربي عبد الرحمن بن خلدون «وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأثره وكأنه خلق من جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث»، وهذه المقولة تلخص خطورة الانقلاب الحقيقي الذي يشبه الخلق الجديد.

وسائل الإقطاع

وفي جزء الكتبة يتحدث عن وسائل تثبيت دعائم الإقطاع الجديد طبقياً واجتماعياً، ويوازن ذلك مع الإقطاع القديم ويستشهد برواية 1984 الذائعة الصيت لجورج أورويل المترجمة إلى العربية، والحديث يطول، والاختصار يؤذي الفكرة، لكن المؤلف استشهد بقول لألدوس هكسلي في روايته عالم جديد شجاع، وهذا القول يمكن أن ينسب إلى الاستشراف «الأسياد ليسوا استالينيين أجلافاً أو أصوليين متعصبين، بل مديرون تنفيذيون وعقلانيون يعرفون بالمتحكمين بالعالم»، وهم من حمل الفصل اسمهم «المشرعنون الجدد» وهنا يتحدث عن تشكل الإقطاع الجديد الذي يشرعن للعالم، والقائم على التفوق التكنولوجي وليس على القوة والصلابة والبطش.

ويتناول طبقة صغار المالكين المحاصرة «اليوم يواجه جيل جديد في الولايات المتحدة، وفي جزء كبير من العالم الذي يتمتع بدخول مرتفعة آفاقاً متضائلة في احتمال امتلاك الأرض أو التقدم إلى عيش حياة الطبقة المتوسطة المريحة» فعن أي شيء يتحدث الكاتب بعد أصحاب الدخول المرتفعة؟

إنه يصل إلى نظام العبيد والأقنان ويبدأ بقول لإنغلز «يوماً ما ستطغى على الطبقة المالكة للعقارات أحداث تتجاوز توقعاتها بكثير بل تتجاوز حدود فهمها».

ثم يرسم المؤلف جغرافية الإقطاع الجديد من خلال نظام عالمي اجتماعي واقتصادي جديد يقوم على التكنولوجيا والمجتمع الرقمي المؤتمت، ويوضح الصور التي تظهر الإقطاع الجديد، وذلك ببذر روح التعصب وضرب الأقليات وبث الكراهية للوصول إلى حالة مثلى تحقق الإقطاع الجديد، ولم ينس الكاتب موقع المسلمين والعداء للإسلام، ويوجه دعوة حقيقية لمواجهة الإقطاع الجديد بالتمرد، فهل يفلح الإنسان في رسم مساره؟ ويختم كتابه بقول لمؤرخ بريطاني «سعيدة هي الأمة التي لم ينسَ شعبها كيف يتمرد».

وأخيراً

كتاب قدوم الإقطاع الجديد- تحذير إلى الطبقة الوسطى العالمية واحد من الكتب الخطيرة بما تكشفه من الوثائق، وبما يقدمه من معلومات حديثة تخرج عن إطار ما يتبادله السياسيون من شعارات، فالأمر أصبح أكثر خطورة وأكثر عمقاً، وهو مرسوم بعناية ممن يتحكمون بالعالم وتكنولوجيته والشركات الكبرى التي تمدّ أذرعها في كل مكان من العالم، وتعدّ ترجمته إلى العربية فرصة ليطلع عليها المثقفون والسياسيون لرسم معالم التمرد في وجه الإقطاع الجديد الذي سيحولنا إلى أقنان وعبيد على أيدي المديرين التنفيذيين اللطفاء الذين سيصلون بلطفهم إلى غاية القسوة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن