بعد تأجيل دام لنحو أكثر من شهر، وبعيداً عن وسائل الإعلام، أجرى «الائتلاف السوري» المعارض انتخاباته يوم الـ 12 من أيلول الجاري لانتخاب رئيس جديد له خلفاً لرئيسه السابق سالم المسلط الذي رفضت أنقرة طلباً تقدم به لتمديد «ولايته» عاماً آخر، حيث سيشير الفعل إلى دلالات ومؤشرات عن المنحى الجديد الذي تتبعه القيادة التركية تجاه الأزمة السورية برمتها، بل واتجاه ملفاتها الشائكة التي تترابط وتنفصل، أحياناً بشكل يصعب معها التعاطي مع تلك الملفات كرزمة واحدة حينا، كما يصعب معه القيام بالفعل النقيض أحياناً أخرى.
قد لا يكون مهماً هنا الدخول في التفاصيل التي سبقت الجلسة التي خصصت لانتخاب «الرئيس»، ولا مهماً أيضاً الدخول في التفاصيل التي شهدتها تلك الجلسة، على الرغم من أن كلا الفعلين ذو دلالات تشير إلى أكثر من معطى جديد في بنيان كيان ما انفكت تركيبته وتوازناته، ثم سياساته كتحصيل لما سبق، ترتسم، ثم تتغير، على وقع الرؤى والمتغيرات التي تشهدها سياسات الدول الفاعلة في الأزمة السورية وعلى رأسها تركيا والولايات المتحدة، ثم قطر، التي تلعب دور «كيس المال»، بدرجة ثانية، وإنما الأهم هو المآلات التي أفضت إليها الجلسة آنفة الذكر وما تشير إليه في ضوء التطورات الحاصلة على الملف السوري.
جاءت النتيجة بإعلان فوز هادي البحرة كرئيس لـ«الائتلاف السوري» لعام ينتهي شهر أيلول من العام المقبل، والرجل ليس جديداً على مهمة كهذه فقد سبق له وأن تولاها شهر تموز من العام 2014، وعندما خرج منها ظل ضمن دائرة القرار الضيقة داخل ذلك الكيان، ولربما يعود الفعل لاعتبارات عدة منها أن سيرته الذاتية فيها الكثير مما «يشجع» للاحتفاظ به كورقة «مفيدة»، أو كـ«جوكر» يصلح استخدامه حينما يتعذر سحب الورقة اللازمة لتتمة «الدست»، فالرجل خريج جامعات الولايات المتحدة، أما سيرته المهنية فهي التصقت بالمملكة السعودية التي شهدت أيضاً خطوات «حبوه» الأولى على طرقات السياسة، أما انتسابه لـ«الائتلاف» فكان شهر أيار من العام 2013 الذي شهد «التوسعة» الثانية لـ«المجلس الوطني» الذي كان قد عرف باسمه الجديد «الائتلاف السوري» قبل نحو عام من هذا التاريخ الأخير بعد «أربعينية» الصرخة التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، من زغرب احتجاجاً على تركيبة «المجلس الوطني» داعية أطرافه إلى «استقطاب شرائح جديدة» التي كان منهم «الليبراليون» الذين يمكن هنا تقسيمهم لنوعين أولاهما «متجذر» بمعنى أنه تبنى ذلك النهج كانعكاس للتركيبة الاجتماعية – الاقتصادية التي نشأ منها، والثاني «عابر» بمعنى أن تبنيه للنهج ذاته دفعت به ظروف مرحلية بالتزامن مع قراءة تراكمت لدى «المتبني» وهي أمدته بتخمين اتجاه الريح، أو الأعاصير القادمة، والمؤكد هو أن البحرة كان من هذا النوع الثاني الذي أضحى يمثل الثقل الأوزن داخل التيار الليبرالي النامي بقوة داخل الرحم السورية منذ سقوط بغداد 2003.
من المؤكد أن انتخاب، أو بمعنى أدق تعيين، البحرة لقيادة «الائتلاف»، كان يمثل نقطة تلاقٍ تركية – أميركية، سعت أنقرة من خلالها إلى إحكام قبضتها أكثر على هذا الأخير الأمر الذي يتأكد بوضوح عبر توجه تركي برز في الآونة الأخيرة سعت أنقرة من خلاله إلى إلحاق المناطق السورية التي تحتلها بـ«والٍ» واحد بدلا من إلحاقها السابق الذي كان يقضي بإدارة تلك المناطق من قبل «ولاة» عدة، أما واشنطن فهي ترى في الفعل، وهي تتناغم في رؤيتها تلك مع نظيرتها التركية، تقليصاً لدور «الائتلاف» الذي بات منذ سنوات مؤسسة «إعلامية»، ومعارضوه «فيسبوكيون» يقطنون فنادق الخارج، الفعل الذي وسع مسافة الرؤيا بين ما يجري على الأرض وبين منشورات صفحاتهم على الـ«فيسبوك»، ومن حيث النتيجة أضحت تلك «المؤسسة» بلا وزن حقيقي على الأرض، بل ولا في معادلات السياسة، وجل الدور الذي تقوم به يتمحور حول إصدار البيانات أو الإشادة بالقرارات والقوانين التي من شأنها تأزيم الوضع السوري، في مقابل تعويم دور «هيئة التفاوض العليا» التي باتت تركيبتها «مرضية» للأميركيين خصوصاً، وللغرب عموماً، بعد تنامي الدور الذي يقوم به «الليبراليون» فيها منذ نحو سنتين على وجه التحديد.
مر «الائتلاف السوري» منذ نحو ثلاث سنوات على الأقل بالعديد من الأزمات على وقع الصراعات التي فرضتها تركيبته التي احتوت على تيارات متناقضة في منهجيتها ورؤاها ولاصقها الوحيد هو الهدف، ومن الطبيعي أن يؤدي تلاشي هذا الأخير إلى بروز تلك التناقضات بعد غياب «اللاصق»، ثم على وقع التدخلات الإقليمية والدولية التي تكاثفت في الآونة الأخيرة في ظل التحركات الرامية لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وزاد من مفاعيل ذلك كله الأزمة المالية الناشئة بفعل تقليص أنقرة لحجم الاعتمادات التي كانت تقدمها الأخيرة كنتيجة لتغير جرى على الحسابات السياسية ولربما كان في جزء منه تعبيراً عن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها «الممول» ذاته، لكن ذلك كله لا يمثل مبرراً كافياً لشرح المآلات التي قادت به، أي بـ«الائتلاف»، إلى الحال التي وصل إليها، والمؤكد هو أن المبرر الأعمق هو المرور بأزمة بنيوية باتت تهدد الكيان برمته بالانحلال والتفكك، وما يزيد من ثقلها ومفاعيلها هو أن الأزمة البنيوية، أضحت محل استثمار لخارج يرى في النتائج التي يمكن أن تفضي إليها ما يحقق مصالحه التي لم تعد تركيبة «الائتلاف» قادرة على تحقيقها.