لفترة قريبة كانت الوظيفة في كنف دوائر الحكومة حلماً كبيراً يداعب مخيلات الكثيرين وخاصة الخريجين من الجامعات والمعاهد بعد سنوات من التعب والدراسة.. لكن وبعد المفرزات وحالة المتغيرات التي طرأت، ماذا حصل..؟ ولماذا تغيرت القناعات بكل هذه السرعة..؟ لدرجة أن الوظيفة لم تعد مقنعة أو يرضى فيها ذاك الإنسان الحالم بمعيشة وواقع ليس بذلك الواقع الذي يعيشه المواطن اليوم، حيث القلة والفقر وتغير الكثير من العادات وحتى الأنماط والأطباق والطبخات!
عشرات بين الحين والآخر يخرجون من دائرة الوظائف العامة تحت حجة أن الوظيفة صارت مخسرة فلم تعد تكفي جزءاً من احتياجاتهم.. ومع بقاء مسائل معيشية ضاغطة كهذه، ترك البعض وظائفهم عن طريق الاستقالات أو الترك…
ماذا سيحل ببعض الإدارات مع نقص الكوادر..؟ وهل ستقل الإنتاجية، في وقت نسمع أن مدير شركة صناعية يتحدث عن أرباح ستصل إلى ٢٢ مليار ليرة؟ وتناسى أثناء حديثه ما قال: هناك نقص كبير في الكوادر العاملة، ووصل الأمر لدرجة صعبة، لابد من سد ذاك الاحتياج، وما سيطرأ من تغيرات أخرى على صعيد إنتاجية الوزارة برمتها….. وفي حال استمرت الأوضاع كما هي من استمرار المزيد من الاستقالات أو أي منافذ تقود صاحب الوظيفة لهجرها وتركها خلال المرحلة القادمة مع بقاء الظروف الاقتصادية ضاغطة، فالواقع سيكون كارثياً، في وقت كل التوقعات توحي بتغيرات وخسائر على صعيد فقدان الخبرات والكوادر وامتداد لظاهرة عدم الرضا والاقتناع لدى البعض بعدم نجاعة البقاء في الوظيفة العامة لضعف دخلها، وهي تبدو مفهومة لاعتبارات عديدة، منها هشاشة الأرضية المعيشية وما اعتراها من تحديات جسيمة أتعبت كل شيء، وبقاء تكرار المنغصات في وقت لا أحد مهتم بالتحولات الحاصلة إزاء ثقافة تتمدد وتأخذ منحى مغايراً لما كان سائداً في السابق تجاه الحب الأكيد للوظيفة وتأدية العمل، على عكس اليوم حيث الدوران حول الأشخاص والأشياء، على حساب الأفكار والبرامج، أو إن شئت، الاستغراق في الذاتي وتهميش الموضوعي والعام، ومنها اصطدام التوقعات والرغبات مع الواقع، بما يحكم هذا الواقع من إمكانيات.
الأخطر من حالات الاستقالة المعلنة التي تشهدها معظم الإدارات، هو الاستقالات الصامتة، التي حوّلت العديد من الموظفين وبعض المديرين المغلوب على أمرهم، إلى مجرد أسماء وأرقام في قوائم، هؤلاء انسحبوا، أو عطّلوا فاعليتهم، جراء إحساس عام بالإقصاء، أو الحرد، أو عدم تطابق حسابات الحقل لديهم مع حسابات البيدر، بعد كل قرارات التضييق وتقليل بعض القنوات التنفيعية وربطها بالمدير أو بالشخص «المدعوم» كل ذاك أفرز حالة من الفراغ الذي تعاني منه بعض الإدارات، وفي أماكن أفرز كتلة صغيرة أصبحت تتحكم بعجلة دوران الإنتاج أو القرار الإداري والمالي، مقابل شريحة كبيرة من الموظفين موجودة تتفرج، ولا علاقة لها بما يجري، ما يعني أن بعض الإدارات أو المؤسسات صارت خاسرة، وإنتاجيتها لا تسد قيم رواتب موظفيها..!
وبعد اليوم إدارات عدة تفتقد وستفقد الكوادر، سواء على صعيد هجرة الكفاءات وتركها، أم التي استقالت علنا أو بصمت، ومن بقي يجلس اليوم على المدرجات، بانتظار أهداف غير ممكنة أصلاً.
ما على الحكومة إلا العمل على كيفية الحفاظ على موظفي إداراتها وتعزيز أصحاب الخبرة والمؤهل، وتشغيل الآلاف المتعطلين بلا فائدة منهم.. أكيد تعرف الحكومة واقعهم وعدم نجاعتهم بشيء يذكر..!