قضايا وآراء

«قمة العشرين»: «ممر هندي» لمواجهة «الحزام الصيني»

| عبد المنعم علي عيسى

شهدت مجموعة «العشرين» انطلاقتها الأولى شهر كانون الأول من العام 1999 عندما صدر بيان عن اجتماع جرى في برلين، وضم وزراء المالية ومحافظي البنوك لعشرين دولة تحتل المراكز ما بين 1 و20 على لائحة ترتيب الاقتصادات العالمية، كان بمنزلة إعلان عن ولادة المجموعة التي استمرت اجتماعاتها على منوالها السابق، أي على مستوى وزراء المال سنوياً حتى العام 2008، وهي جاءت انعكاساً للأزمات الاقتصادية الحاصلة نهاية التسعينيات من القرن الماضي، والتي شكلت الأرضية والقاعدة لأزمة العام 2008 التي قادت طبيعياً لرفع مستوى التمثيل في اجتماعات مجموعة «G20» إلى مستوى الرؤساء والقادة، في فعل طبيعي قياساً لكون ما يجري فيها، وكذا في «G7»، و«منتدى دافوس» جنباً إلى جنب كمنابر أخرى يكاد يكون محددا لمجمل التحولات الجارية على امتداد العالم، بعيداً عن مؤسسات النظام العالمي الذي توافقت دول المعمورة عليه في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، وفيه، مثلاً كان صوت دولة مثل لاوس في «الجمعية العامة للأمم المتحدة» يعادل صوت دولة كالولايات المتحدة الأميركية، ما يحتم على الأخيرة، ونظيراتها المالكات لأدوات القوة الهروب إلى مؤسسات أو تكتلات تعطي أصوات الدول «الثقل» الذي تستحقه.

شهدت قمة «G20» التي انعقدت في نيودلهي يومي 10 و11 أيلول الجاري اختلافاً كبيراً عن نظيرتها التي انعقدت العام الماضي في مدينة بالي بإندونيسيا، في العديد من المخرجات التي آلت إليها كل منهما، وفي الذروة منها الموقف من الحرب الدائرة في أوكرانيا، مع لحظ أن القمتين هما الوحيدتان اللتان انعقدتا ما بعد اندلاع الصراع الغربي- الروسي على الأرض الأوكرانية، ففي الوقت الذي صدر فيه عن قمة «بالي» بيان شديد اللهجة تجاه روسيا، وهو أدان «بأشد العبارات العدوان الروسي على أوكرانيا»، جاء البيان الصادر عن قمة «نيودلهي» ليناً بدرجة لافتة تجاه هذه الأخيرة حتى إنه لم يأتِ على ذكرها بالاسم في معرض مروره على «المعاناة الإنسانية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا»، وتلك دلالة على متغير حدث تجاه التعاطي الغربي مع الحدث، وهو الذي استدعى بالضرورة حضور كل ذلك «اللين»، ومن المؤكد هو أن ذاك المتغير لا يندرج في سياق تغير الرؤية الغربية تجاه الصراع ولا تجاه النظرة الغربية للمآلات التي يجب أن يصير إليها.

يصح القول هنا إن غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن «نيودلهي» كان كاشفاً لذلك المتغير، فمن دون شك كانت بكين قد استشرفت التوافقات التي سبقت القمة والتي كانت تشير إلى تناغم أميركي – هندي اعتد هو الآخر بنظائر له مع آخرين، وهي في مجملها ترمي لخلق «منافس» لدى جار آسيوي يمتلك العديد من المقومات للعب مثل دور كهذا ناهيك عن أن ثمة عوامل تندرج في سياق جيوسياسي وتاريخي قد يبرزه بوضوح أن الهند عضو في تحالف «كواد» الذي يضمها إلى جانب الولايات المتحدة وأستراليا واليابان وهو مصمم أساساً لوقف التمدد الصيني في آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي يجعل من هذا «الجار» راغباً للانخراط في «اللعبة» التي تهدف لإحداث تحول جيوسياسي وازن في منطقة ما انفكت تستكمل شروطها لتصبح مركز الثقل العالمي الجديد.

الاستشراف الصيني ظهر بوضوح عندما عبرت بكين قبل نحو أسبوعين من انعقاد قمة نيودلهي عن خشيتها من «توجه أميركي جديد» وهو يرمي إلى «إطلاق حرب باردة جديدة» كتلك التي سعرتها واشنطن مع الاتحاد السوفييتي ما بين 1945 – 1989، لكن مع تبديل اسم هذا الأخير بالصين هذه المرة، والخشية إياها أضحت واقعاً ما بعد قمة نيودلهي، أو في مناخاتها على وجه أدق، حيث جرى الإعلان عن مشروع «الممر الاقتصادي» على هامش شراكة أكبر للبنية التحتية العالمية والاستثمار «PGII» التي تشارك في رئاستها كل من واشنطن ودلهي، وبموجب المشروع سيتم إنشاء شبكة من السكك الحديدية التي تربط ما بين الهند وأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، إضافة إلى الربط بين الدول المشاركة يطول البيانات وخطوط الأنابيب وكذا العديد من ملحقات البنية التحتية الأخرى.

هذا المشروع أي «الممر الاقتصادي» وجد لكي يكون منافساً لمشروع «الحزام والطريق» الذي أطلقته بكين في سياق صعودها الاقتصادي قبل نحو عقد من الزمن، ومن المؤكد أن بكين قرأت فيه سعياً غربياً لسلبها لقب «مصنع العالم» الذي يجيد مديروه «تسويق» منتجاته، كما قرأت فيه من دون شك، تراصفاً هندياً يتماهى مع الغرب في مسعاه هذا الأخير، وكلا الأمرين سيكونان ثقيلي الوطأة على منطقة باتت شديدة الحساسية في التوازنات العالمية، وثقيلي الوطأة أيضاً على عالم بات من المؤكد أنه يمر بمرحلة انتقالية شديدة الخطورة، وأن تجاوزها بسلام يتطلب تفاهمات كبرى بين «عمالقته»، الأمر الذي لا يبدو متوافراً حتى الآن في ظل مضي الغرب بنسج سياسات تقوم على ضرب القوى الإقليمية ببعضها بعضاً، تماماً كما فعل منتصف التسعينيات من القرن الماضي عندما قام بتشجيع باكستان لإطلاق قنبلتها النووية كموازن للقنبلة الهندية التي سبقتها بأشهر فحسب، تمكيناً لهيمنته على العالم، أو بمعنى أدق لإطالة أمد تلك الهيمنة التي شهدت منذ نحو عامين تهتكات عدة في نسجها من النوع الذي يشير إلى قرب الإعلان عن تمزقها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن