مع اقتراب الذكرى العاشرة لإطلاق المبادرة الصينية «الحزام والطريق – BRI» بهدف إحياء الخط الاقتصادي التاريخي الرابط بين آسيا وأوروبا ولكن بمسارات جديدة تضمنت طرقاً برية وبحرية في إطار التوظيف التكنولوجي سواء من حيث تطوير البنية التحتية لخطوط التجارة من سكك حديد وموانئ وغيرها، تم الإعلان في قمة العشرين التي استضافتها العاصمة الهندية نيودلهي عن مشروع شبيه للحزام والطريق الصيني، أطلق عليه «مشروع الربط والتكامل بين الهند والخليج العربي وأوروبا»، إذ إن الممر المقترح من خلال هذه المبادرة سيكون عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم يعبر المملكة العربية السعودية والأردن والكيان الإسرائيلي قبل أن يصل إلى أوروبا، وسيشمل المشروع أيضاً كابلاً بحرياً جديداً وبنية تحتية لنقل الطاقة، وفقاً لما ذكرته «فايننشال تايمز».
اللافت في هذا المشروع إعلانه من الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء قمة العشرين، في ظل غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن القمة، والذي فسر غيابه لأسباب تتعلق بتجنبه الإحراج من هذا المشروع والخلافات المتنامية مع الهند بسبب العلاقة مع باكستان، ما دفع واشنطن لاستغلال هذا التخلف لتحقيق أهداف جيواستراتيجية في تعزيز الصراعات جنوب شرق آسيا ووسطها بهدف تقليص النفوذ الصيني مقابل تعزيز الدور الأميركي المؤثر في تلك المنطقة الحيوية، وهو ما جعل الرئيس الأميركي يوصف هذا المشروع بـ«التاريخي»، وخاصة بعد الدور الذي لعبته بكين في كسر جبل الجليد بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة السعودية، بينما سعت نيودلهي على إعادة التواصل بين الرياض وواشنطن.
إن ما يؤكد أن المشروع الهندي فرض كأمر واقع وأخرج من الأدراج الأميركية بدعم من الدول الأوروبية بهذا التوقيت لاحتواء المشروع الصيني والحد من نفوذها، يتمثل في إعلان الاتحاد الأوروبي إنفاق ما يصل إلى 300 مليار يورو على استثمارات البنية التحتية في الخارج حتى عام 2027 من خلال مشروع «البوابة العالمية»، الذي تم إطلاقه جزئياً لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية والدفاع عن المصالح الأوروبية مع الشركاء التجاريين الرئيسيين.
كما إن استخدام الحكومة الهندية اسم «بهارات» في الدعوات الرسمية التي بعثت بها للدول لحضور قمة مجموعة العشرين، يزيد من جدل المتابعين للشؤون الآسيوية حول أبعاد هذه الخطوة، إذ تتراوح الدوافع في إطلاق هذه التسمية بين خيارين، الأول رغبة الهند في تعديل اسمها كتعبير عن توجهها لإحياء دورها التاريخي في إطار التجارة الدولية، والثاني سعيها للاندراج ضمن المشروع الأميركي في التنافس مع الصين في الإطار الجغرافي الآسيوي.
إضافة لذلك وبتجاهل كل ما ذكر سابقاً، وللتأكيد على أن المشروع الهندي يتضمن أبعاداً جيواستراتجية أميركية – وغربية على حدً سواء، يجب التوقف عند مروحة من المعطيات التي لا يمكن تجاهلها أو إغفالها:
أولاً- صحيح أن الهند قد تعود من خلال هذا المشروع لإحياء اقتصادها وقد تعتبر من الناحية الشكلية أنها المستفيدة الأكبر من عوائد المشروع اقتصادياً وسعي واشنطن لترشيح الهند لشغل مقعد دائم في مجلس الأمن، إلا أن تبنيها لهذا المشروع قد يخلق لها إشكالات سياسية مع كل من الصين التي تدرك مآرب واشنطن لدفع الهند لتبني هذا المشروع، ومع كل من باكستان وإيران وتركيا، بهدف إبعادهم عن الانخراط بهذا الممر، لأن هذه الدول لطالما كانت ممرات رئيسية لأي مشاريع اقتصادية تاريخياً، إذ يمثل استبعاد هذا المشروع لإيران التي تشغل حيزاً جغرافياً أساسياً بين آسيا الوسطى وغربها، انعكاس لنيات الولايات المتحدة العدوانية ضد إيران على الوقائع الجغرافية وعلى مصالح دول المنطقة التي تستفيد من الخط البري الذي يبدأ من الصين ويصل إلى غرب آسيا وأوروبا، أما بالنسبة لاستبعاد باكستان التي تشغل ممراً برياً وبحرياً مهماً في المبادرة الصينية هو لتعزيز النزاع الهندي الباكستاني، وكذلك تركيا التي أعلن رئيسها امتعاضه عن استبعاد بلاده من هذا المشروع، فالهدف الأميركي هو استبدال إسرائيل بها، وفرض الكيان كأمر واقع في العلاقات الإقليمية والدولية من ناحية، وللحد من تنامي العلاقات الصينية الإسرائيلية من ناحية أخرى.
ثانياً- مما يؤكد دور الدبلوماسية الأميركية للتحضير لهذا المشروع، وإعلان الاتفاق الأميركي ـ السعودي ـ الهندي ـ الإماراتي دون تغييب للكيان الإسرائيلي، هو التوقيت السياسي، الذي يسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية ورغبة الديمقراطيين في توظيف ملف احتواء الصين ضمن برنامجهم الانتخابي، والانزعاج الغربي من الموقف الصيني المؤيد للحقوق الروسية، ولتحقيق هذه الغاية تم إحضار الهند المنافس الإقليمي الآسيوي للصين إلى الخليج بغرض اختراق مشروع «مبادرة الطريق والحزام» الصيني، حيث كشفت «فورين بوليسي» عن الدور الذي لعبه مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في زيارته للرياض في آذار الماضي، عندما عقد اجتماعاً ضمه ومسؤولي الأمن القومي في كل من الهند والإمارات والسعودية سبقها زيارة لتل أبيب، ناقش خلالها مجالات جديدة للتعاون بين الهند والخليج والولايات المتحدة، وبعد أشهر معدودة انعقدت قمة الدول العشرين، الأسبوع الماضي، في نيودلهي وأخرجت الولايات المتحدة اقتراحها الذي حضرته خلال جولة سوليفان حول ممر يمتد من الهند إلى أوروبا مروراً بدول الخليج، من شأنه أن يضرب المشاريع الصينية ويدفع بالهند إلى حلبة المنافسة الإقليمية والدولية.
ثالثاً- مما يؤكد الأبعاد الأميركية الجيواستراتيجية من هذا المشروع، هو توسيع دائرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، انطلاقاً من التعاون الاقتصادي الذي يستوجب اتفاقات وتعاوناً سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للاحتفاء بعد الإعلان عن الممر الاقتصادي الهندي، عندما ظهر في مقطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي السبت الماضي يبين فيه بالخرائط مسار المشروع الذي ذكر أن إسرائيل ستكون محطة رئيسية فيه، وأضاف نتنياهو: «يسرني أن أزف لمواطني دولة إسرائيل بشرى تحول إسرائيل إلى مفرق رئيس في هذا الممر الاقتصادي»، مشيراً إلى أن رؤية هذا المشروع «تعيد تشكيل ملامح منطقة الشرق الأوسط»، كاشفاً أن واشنطن اتصلت بإسرائيل قبل شهور عدة للمشاركة في المشروع، ومنذ ذلك الحين جرت «اتصالات دبلوماسية مكثفة لتحقيق ما سماها الانفراجة». واصفاً المشروع بأنه «التعاون الأكبر في تاريخ إسرائيل».
رابعاً- الانخراط والتبعية الأوروبية للتوجهات والمشاريع الأميركية ولاسيما بعد نجاح بايدن في تصحيح العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بعد التباعد الذي أورثه دونالد ترامب لسلفه الديمقراطي، إذ بدا الانحياز الأوروبي للمشروع الهندي من خلال ما قالته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عند إطلاق المشروع: «سيكون هذا الرابط الأكثر مباشرة حتى الآن بين الهند والخليج العربي وأوروبا» في مؤشر لتغيب المشروع الصيني، حتى إنها وصفته بأنه جسر أخضر ورقمي عبر القارات والحضارات.
حتى اليوم مازال هذا المشروع في الإطار النظري رغم التوقيع عليه من دول عدة هي منخرطة في المشروع الصيني، ما قد يزيد التموضعات والتحالفات، ضبابية، فهل تنجح أميركا في تعويم المشروع الهندي ووقف زحف الحزام والطريق باتجاه أوروبا، أم إن الصين لن تتنازل عن المكانة الاقتصادية والسياسية التي وصلت إليها لتكسر كل الخطوط الحمر، وستتخلى عن دبلوماسيتها الهادئة التي اتصفت بها للدفاع عن نفسها وعن حلفائها بما فيها سورية.