ثقافة وفن

بين التراث اللامادي والمسرح يبقى «خيال الظل» القادم من الشرق … إبداع للفرجة والتعبير استطاع أن يؤسس لفن المسرح العربي في بدايات مبشرة

| إسماعيل مروة

اختلف الدارسون العرب في المسرح وتأصيله حول وجود مسرح لدى العرب، وذهب عدد من الباحثين أبعد من ذلك حين ردوا التجارب المسرحية إلى مرحلة متقدمة في التاريخ كما فعل الدكتور علي عقلة عرسان الكاتب والمسرحي والمخرج المعروف في كتابه الرائد «الظواهر المسرحية عند العرب» وكذلك فعل الدكتور والناقد علي الراعي في كتابه «المسرح في الوطن العربي» الصادر عن سلسلة عالم المعرفة، وأغلب الباحثين يرون تلك التجارب بذوراً لفن الفرجة المسرحي في طريقها لتصبح مسرحاً.

خيال الظل والتراث

ذاع صيت خلال الظل «فن يعتمد على ظلال الدمى» من خلال ستارة بفعل ضوء يتم تسليطه عليها، فنحن أمام ضوء ودمية وستارة، وشخص ماهر هو اللاعب الذي يقوم بتحريك الدمى، وفق الفكرة التي يريد، وتذكر الكتب أن هذا الفن وفد أولاً من الشرق إلى بلادنا العربية، وتم أخذه في سورية ومصر على وجه الخصوص، والذي يعنينا هو أنه منذ القرن الخامس الهجري دخل هذا الفن وحمل العاملون فيه أسماء فنية ترتبط بمهنة.

والذي يعنينا أن العرب وإن وصلهم خيال الظل، إلا أنهم عملوا عليه وطوروه، وعاشوا معه منذ القرن الخامس الهجري ليمثل لهم الفرجة وصندوقها والفرحة، والقدرة على الخيال والتحليق بل إنهم صنعوا له الدمى والشخصيات التي استطاعت عبر خمسة عشر قرناً أن تجعله إرثاً لا مادياً عربياً حضارياً، يحمل ذاكرة الإنسان العربي، ويروي الكثير، والأهم أنه ما يزال إلى يومنا هذا بعض الفنانين يقومون بالتفنن فيه وتقديمه وتطويره، بل تعليمه ونقله إلى الأجيال الشابة الجديدة ليشكل إرثاً حقيقياً لقرون طويلة من الإبداع، والفرجة والفن المسرحي في بذوره الأولى.

أهم شخصياته

بمهارة الفنان المحترف يقوم «المخايل» الذي أتقن حرفة خيال الظل بتحريك الدمى الجلدية متوسطة الطول ليقدم للجمهور قصصاً اجتماعية وسياسية واجتماعية، بطريقة مقبولة تعتمد على الفكاهة المحببة، ما جعل الجمهور الأكبر من الأطفال، والحوار الذي يدور بين الشخصيات، يكون مصنوعاً من محرّك الدمى، وهو الذي يختار كل شيء بدءاً من الدمى وشكلها وحركتها، وصولاً إلى الحوار والقصة ولهجة اللاعبين.

وحين استوطن خيال الظل البلدان العربية ابتكرت شخصيات محلية تستطيع أن تحمل أعباء الحكايات، وتم توطينها على هذا الأساس، وتم ابتكار شخصيتي «كراكوز وعيواظ» والاختيار فيه الكثير من الطرافة والفكاهة، وأغلب القصص تنتمي إلى وجود مفارقات ومواقف ضاحكة ليتمكن المسرح من تقديم أهم القصص وأكثرها خطورة بقالب ساخر، وتذكر الدراسات أن صانعي الدمى كانوا من الحذق والمهارة، بحيث قدموا موضوعات شائكة تتعلق بأمور السياسة والحكم، وكله بمهارة ومن وراء ستار.

وتوطين خيال الظل عربياً جعل البلدان العربية تصنع شخصيات تناسبها، وفي سورية أخذ كراكوز وعيواظ المحلية المطلقة واللهجة في دمشق وحلب، وكانت أماكن العرض في المقاهي والساحات العامة، وتكثر ظاهرة خيال الظل في الأعياد والمناسبات التي يسعى الناس فيها للسعادة.. وغالباً ما كان الفنانون يحمّلون كراكوز وعيواظ ما لا يمكنهم قوله في الأحوال العادية، وفي مصر اشتهر خيال الظل وصندوق الفرجة ليطوف أرجاء مصر كافة وخاصة في المناسبات والأعياد والموالد.

ضرورة الحفاظ عليه

مع تطور الفنون ووجود المسرح والخشبة، وانتقال الفن المسرحي بأصوله الغربية إلى المنطقة العربية، تضاءل وجود مسرح خيال الظل، ولأنه يمثل جزءاً مهماً من الذاكرة الثقافية والشعبية والفنية كان لابد من التعامل معه على أنه إرث لا مادي، يجب أن يبقى موجوداً، ولو بحدود الصورة التوثيقية التي تحفظه للأجيال القادمة، وإثبات أهميته كعنصر من عناصر الثقافة في بلدنا سورية، وقد شكل رافداً جمالياً وتذوقياً وفنياً، وربما صنع الأرض الممهدة لولادة المسرح ولادة طبيعية، ولأن خيال الظل اليوم لن يكون رابحاً ورائجاً في ظل التقنيات تلتفت المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي والتراثي لتوثيقه وحفظه وتسجيله.

ابن دانيال وصلة الخيال بالأدب

تجمع كتب الأدب على أن محمد بن دانيال الموصلي هو أشهر من كتب خيال الظل في تمثيليات، وهو شاعر وفنان من القرن الثالث عشر «المملوكي» وهاجر إلى مصر، وأمام القوانين الملتزمة وجد ضالته في خيال الظل.. واستطاع من خلال تمثيلياته أن يقدم المتعة والفائدة والترفيه لمختلف طبقات المجتمع، وقد أقبل الناس على متابعته من مختلف الفئات والشرائح، وربما ساعد ابن دانيال على الإبداع في هذا الجانب مهارته الشعرية والفنية، إذ كان يكتب ويلحن ويقدم، وهذا المستوى جعله مقبولاً حتى من السلاطين الذين حضروه وكانوا يحرصون على دعوته للترفيه عنهم لما في خيال الظل من إبداع والتزام.

خيال الظل مسرح

أمام أي خلافات حول ما إذا كان العرب قد عرفوا المسرح أم لا، فإن الباحث المنصف الذي لا يتعامل بتعصب لمنطقته، أو بتعصب للحداثة سيجد أن العرب عرفوا تجارب تقارب المسرح، ومنها ما أشار إليه كثيرون من مجالس الخلفاء والشعراء، ومجالس العلماء، وجلسات الخلفاء، ويأتي مسرح «خيال الظل» وإن كان متأخراً في وقته ليمثل نقطة تطور في الظاهرة المسرحية عند العرب، فبعد أن كانت الظواهر مجالس، تحولت إلى تقنيات وصنّاع وأدوات وخبراء، «المخايل» وأهم ما يجعل خيال الظل مسرحاً هو الغاية، فالغاية هي الفرجة والمتعة والتنفيس، وهي ليست غايات شخصية بقدر ما هي غايات مجتمعية، واستخدمت أساليب فنية وأدبية فيها الكثير من الإتقان.. وأمام من يرفض هذا الزعم أو يدحضه، الحرية في القبول والرفض، ولكن اعتمادنا المنطق وسيرورة الحياة يرشدنا إلى عدّه ظاهرة فنية ساحتها الخشبة وصانعها المبدع، والدمى الممثل، والحضور هو جمهور المسرح بعُرف ذلك الزمن، وليس بإمكاننا بحال من الأحوال أن نحكم على هذه الظاهرة بما وصلنا من تطور في المسرح وتقنياته، وإذا ما فعلنا ذلك، فإننا سنقف أمام المسرح القديم موقفاً سلبياً أمام أنواع المسرح الفكرية والتقنية التي صعدت بالمسرح ومفهومه وتحطيم قواعده وأسسه التي عرف بها.

وأهمية أن تدعو الأمانة السورية للتنمية إلى الاعتناء بمسرح «خيال الظل» تؤكد ضرورة الحفاظ على الهوية والإرث الحضاري لبلدنا، وإيلاء هذا التراث المكانة التي يستحقها وتوثيق ذلك على مختلف الصعد العلمية العالمية لتكون معيناً على تعزيز الانتماء للأرض والثقافة.

أخيراً

أدرك بعضنا صندوق الفرجة وجلس أمامه، ورأينا تمثيلياته في المناسبات، وكانت هذه المرحلة المتأخرة غير معبرة عن حقيقة خيال الظل، إذ تكتفي بمشاهد ارتجالية سريعة غايتها الارتزاق، لكن خيال الظل كان فناً أدبياً وموسيقياً مهماً يحمل الكثير من الفكر، ويطرح قضايا عديدة تصل حد روايات لحكايات معروفة، وحكايات أخرى لها علاقة بالناس عموماً.

وكما تحتفظ سورية بالكثير من التراث اللامادي.. فإنها تحتفظ بالذاكرة القريبة لفناني خيال الظل، وهذا ما يدعو إلى توثيقه وتعزيز مكانته على الصعد التراثية والثقافية والأدبية، وخاصة في ظل وجود تخصص التراث الشعبي في جامعة دمشق.

وما يزال الوقت ممكناً بوجود عدد من الذين شهدوا هذا الفن الأصيل ومارسوه، وربما وجود ورثتهم، والأكثر أهمية وجود تلك الأجهزة التي كان مبدعو خيال الظل يستخدمونها، وبذلك يمكن الحديث عن تفاصيل هذا الفن الراقي، والاستفادة من المراحل التي وصل إليها قبل أن يتحول عنه الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن