بهرته الصين وأعطته حياة جديدة … عبد المعين الملوحي وتجربة الأديب في الصين وتصويره لها … أي إنسان لا يكون سعيداً إذا زار الصين؟!
| إسماعيل مروة
عبد المعين الملوحي أديب لا يتكرر في سورية، وربما لا يتكرر في أدبنا العربي عبر التاريخ الطويل، فهو أديب وشاعر وأستاذ ومحقق للتراث ومترجم عن لغات غير مشتهرة، وهو أكبر من اعتنى بتاريخ الشعوب الآسيوية وأدبها، فإذا سألت عن الأدب الفيتنامي فهو مترجمه، ومترجم تاريخه إلى العربية، وهو ناقل روائع كوبا والصين، ويروي عبد المعين بأنه طبع جزءاً من كتابه الأدب الفيتنامي، وحين استقبله الرئيس حافظ الأسد سأله عن حاجته، فكانت حاجته أن يطبع كتابه الذي ترجمه عن الأدب الفيتنامي، وكان له ما أراد، وللصين نصيب كبير في حياته ووجدانه وأدبه.
دعي لزيارة طويلة إلى الصين، كما يذكر «في 10 تموز 1977 زارني الرفيقان سفير جمهورية الصين الشعبية ومستشارها وطلبا مني أن أسافر للعمل في الصين، وقبل أن يسرد الملوحي التفاصيل والسفر، يستذكر أنه زار الصين، وهو الذي كان مقيماً في كوريا بحكم ميوله اليسارية وتواصله مع الرفاق.
زرت الصين مرتين قبل زيارتي الثالثة الطويلة الأخيرة، كنت في كوريا، وقلت للرفاق الكوريين: أنا الآن في كوريا، والصين قريبة، ولا أدري هل أزورها في حياتي؟ فهل تسمحون بزيارتها في طريق عودتي إلى بلدي؟ فقالوا: لا مانع.. وذهبت إلى الصين راكباً القطار من بيونغ يانغ إلى بكين، ولم تنقض سنة واحدة حتى زرت الصين مرة ثانية عام 1975 وزرتها هذه المرة مع زوجتي، وقضينا فيها أكثر من شهر وكانت رحلة العمر حقاً.
وربما كانت زيارة الملوحي في المرتين وراء موافقته ورغبته في زيارة الصين والعمل فيها.
الحياة والمجتمع والعمل
في ذلك العام 1977 يذكر الملوحي أنه أقام في فندق الصداقة الذي يتسع لأكثر من 25 ألف زائر، وفيه يشرح طبيعة الحياة في الصين التي تستقبل الجميع.. وجدت في فندق الصداقة أخلاطاً غريبة من الشعوب والأمم والأفراد.. ويطلب من أصدقائه العرب أن يؤدوا واجبهم تجاه الشعب الصيني كما يؤدي واجبه تجاههم، ها هو ينخرط في العمل وترجمة الأعمال الصينية، ويحاضر في جامعة بكين، ويشيد بالمناقب الصينية والتواضع، «أكثر ما أفرحني في دروسي أني وجدت زملائي الصينيين مدرسي اللغة العربية في جامعة بكين يحضرون دروسي ويجلسون على المقاعد إلى جانب طلابهم… ما أحسن التواضع، وأحسنه أن يتواضع العالم في طريقه الطويلة الشاقة إلى العلم.
وينقل الملوحي صورة قلمية مهمة للغاية لشخص كبير في المقام والسن، نسي اسمه وذكر صفته «رئيس الخبراء».
«ذهبت معه إلى بيته، بعد اعتذار طويل لم يقبله.
أتعرفون ما وجدت في هذا البيت؟
أثاث بسيط للبيت مؤلف من غرفتين اثنتين وأسرّة الأولاد تقبع تحت سريري الأبوين.
أتعرفون أين تغدينا؟
في غرفة استعارها مدير الخبراء من جيرانه، نعم استعارها المناضل رفيق رئيس الجمهورية في مسيرته ونضاله من جاره، ثم لم يبد عليه أنه تأثر بوضعه، إنهم يناضلون من أجل شعب.
ذات يوم أبديت له عجبي من سلوكه وحياته فقال لي:
لا تعجب يا عبد المعين، كنا ننام في العراء، فأصبحنا ننام في بيوت، وكانت مضاجعنا على الحجارة والتراب، فأصبحت مضاجعنا من سرر وفرش.. لقد تقدمنا وسوف نتقدم فاصبر وانتظر.. الثورة لا تتم في يوم، ورفاه الأفراد لا يمت إلى الثورة بصلة، إنه تدرن سرطاني في جسوم الشعوب على حساب الخلايا الحية».
تعامل الصينيين مع مرضه
قصة مرض عبد المعين الملوحي حكاية، يرويها بأنه عندما كان في الصين أصيب بجلطة دماغية، استيقظ ليجد نفسه مشلولاً وحيداً غريباً، ولننظر ما يقول:
«قسم طلابي ورفاقي أنفسهم إلى فرق عديدة، كل يوم ثلاثة من الطلاب يلازمونني. لم أشعر طوال مرضي أن واحداً منهم يضيق بزيارتي وتنفيذ مطالبي، الحق أن معرفة الصينيين تغيب تحت أجفانه فوق عينيه الصغيرتين، ولكن حركاته وكلامه وسرعته في تلبية مطالبي دلتني على أنه يقوم بواجبه عن حب وقناعة ورغبة.
كان الصينيون أوفياء، جد أوفياء، فأرسلوا إلى أهلي أني مريض مرضاً يسيراً، وأني أريدهم إلى جانبي، وعرضوا على أهلي السفر إلى بكين، وقدموا لهم بطاقات الطيران والضيافة.
قال الصينيون في شهامة ما مثلها شهامة:
نحن نعرض عليك أن تبقى في الصين عندما تخرج من المستشفى، ننقلك إلى مصح، وتبقى فيه كما تشاء مجاناً، وراتبك يدفع لك كاملاً كما كان يدفع من قبل، ومهما طالت مدة بقائك في المصح فأنت ضيفنا».
من طريف ما سجله في الصين
رأيت عجوزاً في السبعين من عمرها تسحب عربة، وإلى جانبها حفيدها الصغير، وهو في الثامنة أو التاسعة من عمره، كانت تحاول تخليص العربة من الطين، وتجرّها قليلاً ثم تنغرس مرة أخرى في الطين.
وسرت في الحقل حتى وصلت إليها، عرضت عليها خدماتي فرفضتها رفضاً قاطعاً، وأشارت إلى حفيدها وأنه هو الذي يساعدها.
وخرجت من الحقل ووقفت إلى جانب الطريق.
وظلت العجوز الصينية نصف ساعة وأكثر، حتى أخرجت العربة من الحقل، فمسحت عرقها الكثيف، وجلست على قارعة الطريق تستريح.
مرحى للذين يعتمدون على أنفسهم ولا يحتملون منة أحد، ولو كان من المتطوعين».
كان عبد المعين الملوحي حتى أيامه الأخيرة يذكر الصين بحب، ويعجب من بقائه حياً بعد هذا المرض، ويتذكر كيف عالجه الصينيون بالإبر، وفي دمشق زاره السفير مع الفريق الطبي الذي استمر بعلاجه إلى أن قال للسفير لقد أخذ كفايته من علاج الوخز بالإبر، وأخذ العلاج مداه، ولن يفيده بعد هذه المرحلة.
وبالحب والعلاج والحرص بقي عبد المعين الملوحي ثلاثة عقود بعد هذا المرض، وسافر وكتب وترجم، ونقل تجارب الكثير من الشعوب، وبقي على حبه للصين وما قدمته له.
عبد المعين الملوحي من مواليد مدينة حمص عام 1917، توفي في 21 آذار عام 2006.