«الجنون» الانتخابي الأميركي والاتهامات المتبادلة بالفساد بقمة الهرم
| الدكتور قحطان السيوفي
في عام 2008 ووسط زخم الانتخابات الرئاسية، علّق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما على بعض الانتقادات الموجهة له، قائلاً: إنها تشير إلى أمة في خضم «موسم سخيف سياسياً».
وعادة ما يطلق على الموسم الانتخابي الأميركي بـ«الموسم السخيف»، وهناك قول أميركي معروف مفاده أن «الجميع أغبياء في عام الانتخابات» فمن يتابع تفاعلات ما قبل الانتخابات الرئاسية الآن يلحظ أن الولايات المتحدة تستعد لمرحلة «جنون» مختلف، حيث يأتي التحضير لحملات الانتخابات الرئاسية وسط تراشق اتهامات قانوني بالفساد غير مسبوق وتتشابه التهم الموجهة ضد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن في إجراءات العزل بإطارها العام رغم اختلاف تفاصيلها، فعنوانها الفساد والعرقلة.
التهم الموجهة للجمهوري دونالد ترامب، التي على أثرها طلب المدّعي الخاص الأميركي إصدار أمر حظر نشر بحقه، قد تقطع تلك التهم على ترامب الوصول إلى البيت الأبيض، وإن فاز فإنه سيكون البطة العرجاء من اليوم الأول، ومن ناحية أخرى هناك الملاحقات القضائية لابن الرئيس بايدن، هانتر، وبتهم مختلفة، لكنها قد تسبب مصاعب للرئيس بايدن بحملته الانتخابية التي تواجه صعوبات أخرى، من أبرزها مسألة العمر.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرة تغّيرت الوجوه: فبدلاً من الرئيس السابق دونالد ترامب، يقف الرئيس الحالي جو بايدن في قفص الاتهام.
وبدلاً من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، يوجّه رئيس المجلس الجديد كيفين مكارثي أصابع الاتهام لقاطن البيت الأبيض في استعراض لعضلاته السياسية، بعد مشوار شاق للوصول إلى كرسي رئاسة المجلس.
نقاط الاتهام لبايدن شدد عليها مكارثي في عرضه السريع للقضية لتبرير تأييده لإجراءات العزل وعلى الرغم من التشابه العام، فإن نقطة الاختلاف الأساسية هي التوقيت.
فقد تزامنت الإجراءات هذه المرة مع موسم انتخابي حامٍ، يواجه فيه الرئيس الأميركي جو بايدن تحديات كبيرة، بدءاً من الاقتصاد مروراً بكبر سنه وتدهور أدائه ووصولاً إلى علاقته بنجله هنتر، وهو محور إجراءات العزل هذه.
ويتهم الجمهوريون الرئيس الأميركي باستغلال منصبه نائباً للرئيس في عهد إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لإفادة عائلته مادياً بشكل عام، ونجله هنتر بشكل خاص في تعاملاته التجارية.
وفي هذا الإطار، وجّه مكارثي اللجان المختصة في مجلس النواب للبدء بتحقيقاتها وجمع الأدلة للمباشرة بإجراءات العزل.
كشفت المناظرة بين مرشحي الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية في العام المقبل عن انقسامات كبيرة بشأن السياسة الخارجية، خاصة ما يتعلق بدعم أوكرانيا في الحرب، وقواعد الحزب الجمهوري منقسمة مثل المرشحين ويثير هذا مخاوف من أنه إذا فاز جمهوري انعزالي في 2024، فقد يمثل ذلك نقطة تحول للنظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة تاريخيا.
كان الرأي العام الأميركي يتأرجح بين الانفتاح والانغلاق، وبعد أن أدرك الرئيس فرانكلين روزفلت العواقب المأساوية للانعزالية في ثلاثينيات القرن الـ20، أطلق العملية التي بلغت ذروتها بإنشاء مؤسسات «بريتون وودز» في 1944، والأمم المتحدة في 1945، ومنظمة حلف شمال الأطلسي «ناتو» في 1949، وانخرط الأميركيون لاحقا لذلك في مناقشات حول التدخلات في الدول النامية مثل فيتنام والعراق وبشأن أخلاقيات التدخل.
في الانتخابات الرئاسية 2016، جاذبية ترامب الشعبوية استندت إلى أكثر من مجرد الهجوم على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، حيث استغل الغضب واسع النطاق إزاء الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن العولمة والركود بعد 2008 كما استغل التغيرات الثقافية المرتبطة بالعرق، ودور المرأة.
أظهر انتخاب ترامب في 2016 الخلافات العرقية والأيديولوجية والثقافية العميقة التي زادت منذ ستينيات القرن الـ20.
على حين يرى عديد من المحللين أن يؤدي الانغلاق الأميركي إلى شكل من أشكال الفوضى حيث انتخاب ترامب يمثل تحولاً واضحاً عما يسمى التقاليد الليبرالية، إذ ما يقرب من ثلث عامة الناس في أميركا انعزاليون.
لقد وصل هذا الرقم إلى 41 في المئة في 2014، وعديد من المحللين يرون أن الفشل في دعم أوكرانيا قد يؤشر إلى عودة الانغلاق الأميركي، وله تداعيات خطيرة على أوروبا وأميركا، فإذا انتصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقد تستنتج الصين أن خوض مثل هذه المجازفات يؤتي ثماره، وهو الدرس الذي ستتعلمه بقية دول العالم كذلك.
أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة قلق الديمقراطيين أنفسهم من مقدرة بايدن على القيام بمهامه في فترة رئاسية ثانية، خصوصاً وقد ظهر عليه التأثر بعامل السن، وبشكل لافت مؤخراً، وهو ما يثير قلق الديمقراطيين.
ومن اللافت أيضاً أن الإعلام الأميركي، المؤيد للرئيس بايدن، بات ينتقده علناً، مثل شبكة «سي إن إن»، التي قدمت تقريراً عن المعلومات غير الدقيقة التي يدلي بها بايدن مؤخراً.
والأمر اللافت أيضاً المقال الذي كتبه ديفيد إغناتيوس في صحيفة «واشنطن بوست»، مطالباً فيه الرئيس بايدن بعدم الترشح لفترة رئاسية ثانية، ومنتقداً أداء نائبة الرئيس كاميلا هاريس، بشكل لافت، وجاء ذلك في صحيفة محابية تماماً لإدارة بايدن.
من شأن هذا الانقسام الحاد بالولايات المتحدة والضبابية حيال أبرز المرشحين، وتبادل التهم بالفساد، بين الجمهوري ترامب والديمقراطي بايدن، أن يؤدي إلى ارتباك سياسي داخلي ودولي وتعميق فوضى الديمقراطية الأميركية.
من الصعب التكهن بمآلات الانتخابات الرئاسية، في ظل اتهامات بالفساد وقد تظهر وجوه أخرى في لحظات مختلفة، جمهورياً أو ديمقراطياً، خصوصاً مع تطور قضية ترامب، وكذلك قضية هانتر بايدن، ولذا فإن من شأن ذلك إرباك المواقف السياسية الدولية، فمن سيقوم، مثلاً، بإنجاز اتفاق، أو اتخاذ موقف ملزم مع رئيس يطالبه أنصاره بعدم الترشح بسبب كبر السن، والآن قضية فساد لابنه التي قد تتطور.
ومن سيراهن على رئيس جمهوري قد تحول الاتهامات الموجهة إليه دون وصوله إلى البيت الأبيض، مع احتمالية تقدم حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس بالانتخابات الرئاسية لكونه المرشح الثاني بعد ترامب في حزبه.
كل هذا «الجنون» المختلف سيؤدي إلى ترقب دولي، وضبابية الأوضاع في الولايات المتحدة، وشدة الانقسام، في الموسم السخيف سياسيا خصوصاً مع دخول العوامل القانونية والقضائية، وانعكاسات ذلك على ملفات السياسة الخارجية كالملف النووي الإيراني، والعلاقات مع الصين، والموقف من الحرب في أوكرانيا.
ختاما؛ جنون الانتخابات الأميركية المرتقبة سينعكس سلبا في ظل الاتهامات المتبادلة بالفساد في قمة الهرم الرئاسي الأميركي ليكشف هشاشة ما يسمى الديمقراطية الأميركية في «الموسم السخيف» سياسياً.