كانت سورية هي الدولة العربية الثانية، بعد مصر، التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية التي جرى الإعلان عن قيامها العام 1949، لم تكن المدة الزمنية الفاصلة بين «الفعلين» تطول لأكثر، سوى قليلاً، من شهرين، والمؤكد هو أن كلا الأمرين كان يندرج في سياق توجه عام راح ينمو لدى دول المنطقة، حديثة العهد بالاستقلال آنذاك، وهو يقضي بتوطيد علاقاتها مع دول الشرق الذي كانت أغلبية بلدانه ممن تتشابه معها، أي مع دول المنطقة، الأوضاع والمهام والتوجهات، والتي يمكن وضعها كلها في رزمة واحدة عنوانها «البحث عن الاستقلال الثاني بعد نيل الاستقلال الأول» حيث راحت الرؤى والأفكار تقول: إن نيل ذلك الاستقلال، أي الثاني، لن يكون إلا عبر السير في طريق التنمية الكفيلة بإنهاء حال التخلف التي كثيراً ما شكلت «نافذة» مشرعة لنفاذ رياح «الخارج» الذي كان مدركاً لحقيقة أن نفاذ الأفكار أمر لا يقل أهمية عن «نفاذ السلاح»، وكليهما لازم لتمام عملية «السيطرة» ثم تأتي البقية.
لم يغب خيار التوجه شرقاً عن الخيارات السورية في أي يوم من الأيام، صحيح أنه كان يتراجع في أحايين عدة طبقاً لضرورات تفرض على صانع القرار «الإمساك بالعصا» من منتصفها إدراكاً منه لحساسية الجغرافيا التي وضعت البلاد بمكان هو أشبه بـ«الصدع» الجيوسياسي الذي لا بديل لـ«الكل» عن الاهتمام به، ومن ثم العمل على إيجاد آليات قادرة على التأثير فيه، لكن الصحيح أيضاً أن ذلك التوجه بقي ظاهراً بشكل نافر داخل اللوحة السياسية السورية التي ظلت محتوياتها الأخرى «مسطحة»، ولم يكن من الصعب على المتابع لحظ ذلك المشهد الذي راحت الدبلوماسية السورية تختطه تبعاً لمنظومة شديدة التعقيد بفعل الحساسية الجغرافية آنفة الذكر.
عند سقوط الاتحاد السوفييتي، أو بعد إعلان سقوطه بعام على وجه التحديد، كان حجم الاقتصاد الصيني يراوح عند سقوف لا تتعدى كثيراً الـ120 مليار دولار، لكن البنى والقواعد التي تم إنشاؤها سنوات الستينيات وصولاً إلى أواخر الثمانينيات كانت سبباً أساسياً لقبول بكين بهذا السقف الأخير الذي كان يضعها في مرتبة متأخرة على لائحة الاقتصادات العالمية، لكنها، أي تلك البنى والقواعد، كانت تنبئ، إذا ما توافرت الإرادة والخطط القادرة على إنفاذها وجعلها واقعاً على الأرض، بإمكان الوصول إلى سقوف تعلو بأضعاف سقف 1992 آنف الذكر، لكن أياً من تلك النبوءات لم تكن بوارد أن «تحلم» بالوصول إلى سقف 19.2 تريليون دولار الذي اعتلى إليه حجم الاقتصاد الصيني العام 2022، واللافت هو أن هذا السقف الأخير لم يكن هو المؤشر الوحيد على تعالي «الحلم» وبلوغه حدوداً تنذر بالكثير على ضفاف عالم بات يمر بمرحلة انتقالية من الصعب الآن رسم ملامح المرحلة التي ستعقبها، فالصين اقتحمت في غضون العقد الفائت، على وجه التحديد، فضاء التكنولوجيا الدقيقة الذي لطالما كان حكراً على الغرب المدرك لحقيقة أن احتكار هذي الأخيرة يرمز إلى استمرار تفوقه من جهة، ويشير من جهة ثانية إلى تفرد «النموذج» بمزايا لا يمكن للنماذج الأخرى أن تتمتع بها.
كان الصعود الصيني وفق المعطيات السابقة مشوباً بالكثير من الحذر، وفي الأمر ما يدعو إليه، ولربما كان ذلك سبباً لبكين دفعها لـ«مراعاة» الغرب أو عدم استفزازه فيما يخص السير بخروقات للحصار الاقتصادي المفروض، زوراً على سورية، لكن مع الثبات بالمسار الداعم سياسياً ومعنوياً لهذي الأخيرة، والراجح الآن هو أن بكين باتت في وضعية الاستعداد للتخلي عن تلك «المراعاة» أو تجنب «الاستفزاز» بعدما اكتشفت أن الغرب بات أقرب لوضعية «اللعب على المكشوف» التي ظهرت في إطلاق مشروع «الممر الاقتصادي» الذي جرى على هامش قمة «G20» مؤخراً بنيودلهي، وإذا ما كانت مدة الـ20 شهراً الفاصلة ما بين هذي الأخيرة وبين الإعلان عن انضمام دمشق لمشروع «الحزام والطريق» الذي جرى شهر كانون ثاني من العام 2022، لم تشهد خطوات على الأرض من شأنها ترسيخ ذلك الانضمام وجعله واقعاً، فإن معركة «كسر العضم» التي اتخذها الغرب شعاراً للعلاقة مع الصين، فرضت على الأخيرة مراجعة الكثير من الحسابات تجاه العديد من محطات مشروعها وفي الذروة منها «المحطة» السورية التي تمثل إحدى نقاط التماس المباشرة التي كثيراً ما شهدت تلاقيات، إن لم يكن تحالفات، ما بين قوى تتآلف على مواجهة المشاريع الأميركية في المنطقة.
قبيل وصول الرئيس الأسد إلى مطار خانجو، كانت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ تقول في مؤتمر صحفي: «إن زيارة الرئيس بشار الأسد ستؤدي إلى تعميق الثقة السياسية المتبادلة، والتعاون في مختلف المجالات بين البلدين، وارتقاء العلاقات الثنائية إلى آفاق جديدة»، لكن تصريح الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم الجمعة جاء حاسماً بدرجة أكبر بعدما قال، وفق ما نقلت عنه وكالة الأنباء الصينية الرسمية: «اتفقت بكين ودمشق على إقامة شراكة إستراتيجية».
مثل هذا يعني باختصار وضع الإعلان عن انضمام دمشق لمشروع «الحزام والطريق» قيد التنفيذ، وأن دمشق باتت محطته التي لا غنى عنها في المنطقة، ويعني أيضاً أن بكين قررت التخلي عن «مجاملة» الغرب في سورية التي كانت سبباً في إحجامات صينية عدة منذ بدء الصراع السوري شهر آذار من العام 2011.