اقتصاد

الحَوَل الرقمي

| فراس القاضي

لعل المثل القائل (فوق الموتة عصة قبر) لا ينطبق على شيء كما ينطبق على قصة الرواتب في سورية، خاصة بعد تبني مشروعي التحول الرقمي والدفع الإلكتروني، إذ لا يكفيك همّاً أن كل الراتب لا يكفي لتجهيز طالب تعليم أساسي واحد للمدرسة، ولا يكفي لشراء أسوأ أنواع الجواكيت لفصل الشتاء الذي صار على الأبواب، ولا لصنع أي نوع من أنواع المؤونة، بل عليك أن تذوق الأمرين حتى تتسلمه.

صدقاً وبلا مبالغة، أول الشهر صار مبعث قلق عند الناس، وخاصة المتقاعدين، وبشكل أخص المسنون الذين تراهم يفترشون الأرض بجانب الصرافات لعدم مقدرتهم على الوقوف في الدور لساعة أو ساعتين أحياناً، وكذلك الأمر بالنسبة للمتقاعدين الذين يتلقون رواتبهم من البريد، إذ تراهم بالمئات داخل الصالة وخارجها وعلى الأدراج والأرض وفي كل مكان يستطيعون الجلوس فيه.

الأمر ورغم مأساويته بكل المقاييس، لا يخلو من بعض التراجيكوميدي، فمن المضحك والمبكي في آن معاً أننا كسوريين لم تتكحل عيوننا ولو مرة واحدة برؤية كل الصرافات تعمل في مكان ما! أبداً، فالناس دوماً متجمهرون حول صراف أو اثنين والبقية خارج الخدمة!

وفي البريد، يؤدي أيضاً إلى ازدحام شديد إجراء غريب، فالمتقاعدون الذين تصرف رواتبهم بعد 20 الشهر، أمامهم فرصة لمدة عشرة أيام فقط لاستلامها، أي حتى نهاية الشهر، وإن بدأ الشهر الجديد، فإن الرواتب تُعاد للتأمينات، وعلى المتقاعد الانتظار حتى 20 الشهر القادم فيتقاضى الراتبين معاً! أي لا يستطيع المتقاعد التمهل في تسلم الراتب حتى يخف الازدحام، وعليه الوقوف في الطابور لساعات! شخصياً لم أفهم الغاية من هذا الإجراء، لكننا دوماً نلجأ في النهاية إلى مقولة أسعد خرشوف في مسلسل (ضيعة ضايعة): (إي شو نحنا أفهم من الحكومة؟).

مدير عام العقاري صرح لـ«الوطن» منذ فترة بأن مشكلة مصرفه تكمن في قلة عمال تغذية الصرافات، إذ يلزم المصرف 40 عاملاً، ولا يوجد سوى سبعة! وهنا لن نسأل المصرف وإدارته، بل سنسأل أين وزارة المالية التي تجمع من المؤسسات والشركات والمحال وكل الناس آلاف مليارات الليرات سنوياً؟ أين هذه الوزارة؟ وكيف عجزت عن تأمين عدد كاف من الموظفين؟ وأين وزارة التنمية الإدارية التي حصرت كل أمور التوظيف في يدها وتتحدث ليلاً نهاراً عن إصلاحها الإداري الذي لم نرَ منه شيئاً حتى الآن غير الاجتماعات بمعدل ألف اجتماع (بالتنكة)؟ ألم ينتبه أحد من الوزارة إلى الازدحام والعذاب الذي يتعرض له الناس؟ أم لأن السادة الوزراء وموظفيهم المقربين تصل رواتبهم إلى المكاتب، فليذهب الناس وربهم فيقاتلون؟!

منذ فترة قريبة، أكد وزير المالية خلال لقاء مع الإعلام الرسمي أن القرارات الاقتصادية التي يتم اتخاذها تخضع لدراسة مفصلة وتحصل على موافقة جهات متعددة قبل صدورها، وأن حديث الشارع موضع اهتمام دائم للحكومة، إن كان كذلك، أفلا تستحق هذه المشكلة اهتماماً حكومياً يصدر عنه حلول تحفظ كرامات الناس؟

قبل الحرب، كان هناك شركات يتم التعاقد معها لتغذية الصرافات في المناطق البعيدة وفي المحافظات أيضاً، ثم تم فك العقود معها في بدايات الأزمة. ربما حينها كان الدافع الأمني مبرراً لفك هذه العقود خشية من السطو على الأموال أو التجهيزات أو المركبات، لكن الآن ما الذي يمنع من التعاقد مرة أخرى معها لتغذية صرافات الأرياف على الأقل؟ هذا الأمر إن تم فإنه سيؤدي إلى جملة من النتائج الإيجابية على الجميع، حيث سيخف الازدحام في مراكز المدن، وسيستطيع الموظف – وخاصة المتقاعد – استلام راتبه من منطقة سكنه أو على الأقل من منطقة قريبة منها، لأن الصرافات غير منتشرة في كل المناطق، وتمنع العقوبات الدولة من استيراد العدد الكافي منها، وسيوفر المواطن أجرة المواصلات من الريف إلى مركز المدينة، هذا غير تخفيض نسبة اهتلاك الصرافات في الإدارات والفروع الكبيرة.

البعض يقول إن تأخير تسليم الرواتب وعدم إصلاح أو تغذية الصرافات مقصود، والغاية تشغيل الأموال، لكننا لا نتبنى مثل هذا الكلام ليس فقط لأننا لا نملك دليلاً، بل لأنه مجافٍ للمنطق. وربما من الصعوبة بمكان أن نطلب من الحكومة إعادة نظام القبض لكل موظف من دائرته، وترك الصرافات للمتقاعدين فقط، لارتباط ذلك بتغيير برامج أو نمط عمل وحسابات أخرى، لكن بالتأكيد ليس صعباً أبداً الوصول إلى حلول لمثل هذا الموضوع الذي يعتبر بسيطاً جداً مقارنة بمشاكل أخرى أكبر تم حلها عبر إجراءات جديدة، لكن هذا الكلام يَفترض أن في مثل ظروفنا هناك من يفكر دوماً بوضع الخطة البديلة لكل شيء، أو ما يدعى Plan B، هذا إن كان هناك أساساً Plan A.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن