قضايا وآراء

سورية وإمبراطورية السماء

| ميشيل رايمبو

حظي الرئيس بشار الأسد وعقيلته والوفد الكبير المرافق، باستقبال حافل من القادة الصينيين وفي مقدمتهم الرئيس شي جين بينغ، وترك هذا الاستقبال انطباعاً كبيراً من خلال فخامته وحرارته ورمزيته ومحتواه المتنوع.

إن التاريخ في الإمبراطورية الصينية ليس كلمة عبثية، وقد أرادت الصين عدم إتاحة أي مجال للشك بالأهمية السياسية والإستراتيجية والجيوسياسية التي توليها إلى بلد يمثل حضارة عريقة وسيكون دوره حاسماً في مواجهة لا هوادة فيها بين المعسكر الأوراسي الذي يتزعم «الجنوب الشامل» من جهة، والمعسكر الأميركي- الأطلسي الذي يُجسد الغرب الجماعي من جهة أخرى. وأشادت الصين برئيس دولة برهن دائماً على جدارته في العاصفة.

احتاجت الدول الغربية في «معسكر الخير والديمقراطيات الكبيرة» و… الخ، إلى بعض الوقت لكي تستوعب الصدمة، فقد أذهل هذا اللقاء بين الرئيس شي الذي أصبح أحد الشياطين في «الفريق الجهنمي»، والرئيس بشار الأسد، الغرب شاء أم أبى، والتعابير المستخدمة في البيان المشترك والتصريحات الصادرة من الجانبين، أزالت الأمل بإمكانية تجاهل وجود العلاقات المهمة بين البلدين، على سبيل المثال، الإعلان عن بناء «شراكة إستراتيجية» بين الصين وسورية، تشبه تماماً الاتفاق الموقع مع إيران، والتعابير المستخدمة للتأكيد على احترام سيادة الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والاحترام الصارم للقانون الدولي.

صرح الرئيس الصيني قائلاً: «في مواجهة وضع دولي يسوده الغموض وعدم الاستقرار، فإن الصين مستعدة لمواصلة العمل مع سورية من أجل الدعم المتبادل وتشجيع التعاون الودي والدفاع المشترك عن المساواة والعدالة على الصعيد الدولي»، ورد الرئيس الأسد شاكراً الرئيس شي والحكومة الصينية: «على كل ما فعلتموه للبقاء إلى جانب الشعب السوري في قضيته ومحنته»، مؤكداً أهمية هذه الزيارة في هذا السياق والظروف، «لأن عالماً متعدد الأقطاب يتشكل اليوم لإعادة التوازن والاستقرار العالمي».

أكد البيان المشترك أن «الجانب الصيني سيواصل تزويد سورية بجميع أنواع المساعدة الممكنة ودعم جهودها في إعادة البناء والنهوض»، كما أكد على مبدأ السيادة السورية مركزاً على ضرورة إعادة الإعمار وإنهاء العقوبات وجميع الإجراءات القسرية الاقتصادية والمالية غير القانونية والدامية والمخالفة للقانون الدولي والتي تشبه الإبادة في طبيعتها، بناء على ذلك، أكد البيان المشترك أن السياسة الصينية تعارض المقاربة الغربية المنافقة والقاتلة.

بالنسبة لأولئك الذين انتابتهم الدهشة والمفاجأة، يجب تذكيرهم بالعلاقات القديمة بين دمشق والصين، فقد احتجت سورية واستنكرت على طريقتها منذ الأول من آب 1956 العدوان الثلاثي الفرنسي- البريطاني- الإسرائيلي، واعترفت بجمهورية الصين الشعبية بعد شهرين من اعتراف مصر جمال عبد الناصر، وكانت البلد العربي الثاني الذي يفعل ذلك، وفي نهاية الستينيات، أقامت سورية والصين علاقات عسكرية عالية المستوى، وأرسلت بكين السلاح إلى دمشق. إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من تقلبات التاريخ في الشرق الأوسط والحرب الباردة والخلاف السوفييتي ـ الصيني، فقد تطورت التجارة الثنائية بين البلدين، وأصبحت الصين المورد الأول للبضائع إلى سورية عام 2010 عشية اندلاع «الربيع العربي» الشيطاني.

بالنسبة لتلك التحليلات التافهة والمتبجحة من أبواق الدعاية الغربية المضللة، نؤكد أن الصين ساهمت في كسر العزلة السورية، وأنها رفضت دائماً أي شكل من أشكال التدخل في الشؤون الداخلية، وعارضت جميع المحاولات الهادفة إلى «نزع سلاح» الدولة السورية وإسقاط حكومتها.

حكاية بسيطة ستدل على تفاعل الصين مع الملف السوري، ففي ربيع عام 2011، تحدث صحفي باريسي معروف أمام دبلوماسي صيني في باريس عن تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا متحايلاً على قرار مجلس الأمن رقم 1973 مستغلاً غياب الفيتو الروسي و/ أو الصيني، في محاولة لاستفزازه حول الموقف الصيني القادم حول المشروع الهادف إلى القيام بتدخل عسكري جديد في سورية، كان رد الدبلوماسي الصيني حازماً: «تعتقدون أننا أغبياء، لن يكون هناك إطلاقاً قرار مشابه للقرار 1973، سنقوم بإفشال ذلك». من جهته، أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «حملة صليبية جديدة»، ولاحقاً، صدر فيتو روسي ـ صيني، وهو الأول في سلسلة طويلة من قرارات الفيتو التي قطعت الطريق أمام أي عملية تحت غطاء الأمم المتحدة.

استخدمت الصين الفيتو عدة مرات بعد ذلك على الرغم من أنها تستخدم هذا الحق الذي لم تحبه إطلاقاً بشكل ضئيل جداً، فقد دخلت الصين إلى مجلس الأمن بناء على قرار الجمعية العامة بتاريخ 25 تشرين الأول 1971، ولم تستخدمه إلا ثلاث مرات حول قضايا صينية تتعلق بتايوان وهونغ كونغ، مقابل اثني عشر أو ثلاثة عشر قرار فيتو بالتنسيق مع روسيا من أجل منع الأمم المتحدة من القيام بعمل عسكري ضد سورية. كما نلاحظ وجود تعاون إنساني أو حتى مساعدة عسكرية سرّية لا تستفز واشنطن.

إن الصين قلقة، وهناك وما يدعو للقلق، ولا سيما في موضوع الإيغور الذين انخرطوا في «حركة المقاومة في تركستان الشرقية» بإشراف تركي، ويوجد بعض المرتزقة مع عائلاتهم في سورية، وسيشكلون نواة شعب سيحل مكان السوريين في المناطق الشمالية التي يسيطر عليها الجهاديون.

استمرت علاقات الثقة بين البلدين منذ ذلك الوقت، وزار الرئيس الأسد بكين من 21 حتى 26 أيلول 2023، وتغير السياق كثيراً مع مرور الوقت، فقد انتصرت سورية وشعبها عسكرياً وسياسياً، لكنها أصبحت تتعرض إلى عذاب الحظر الغربي وسلسلة كاملة من العقوبات المتنوعة من الولايات المتحدة والأوروبيين، ويجب تفسير جمود الوضع المأساوي أكثر فأكثر في ضوء هذه المرحلة الجديدة من الحرب الهجينة المترافقة مع احتلال ونهب شمال- شرق سورية من دون نسيان انشغال روسيا في أوكرانيا.

يجب الأخذ بعين الاعتبار العوامل الجيوسياسية التي تحرك الخطوط وتغير قواعد اللعبة، فالبروز القوي للصين على جميع الجبهات الدبلوماسية والنزاعات في غرب آسيا والشرق الأوسط، من أفغانستان إلى إيران/ السعودية والعراق وسورية ولبنان، يميل نحو الوقوف في وجه «استدارة» الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما التي تتحدث عنها النخب الغربية بشغف، وينطبق ذلك على الوجود الصيني المتزايد في إفريقيا على الصعيد الاقتصادي. كما أعلنت الصين بوضوح عن طموحاتها في إعادة بناء طرق الحرير القديمة مع «مشروع القرن» الهادف إلى التوسع باتجاه الغرب، وتسارع تحركها باتجاه الشرق نحو أوراسيا التي تمثل مركز ثقل السياسة الدولية، وفشل أولئك الذين كانوا يعتقدون بإمكانية إخضاع الشرق الأوسط لطموحاتهم أو «ترويض» سورية وإزالتها من الخريطة، باتت الصين هي الحصن الخلفي لقوى المقاومة التي تواجه الهيمنة الغربية.

تطورت شراكة وثيقة بين موسكو وبكين بشكل يفتح الطريق أمام إعادة نقاش مسألة النظام العالمي، المهيمن في القرون الماضية، بشكل جديد وصارم، وباتت الإرادة بإعادة التأسيس، واضحة بشكل خاص في هذا الحزام «الأخضر» الشاسع الذي يتطابق مركزه مع الفضاء السوري، حيث منعطف الحضارات ومهد الديانات السماوية، بشكل يتماهى مع التاريخ إلى درجة اختلاط الهويات والأديان بشكل حميم.

إذاً، ليس غريباً أن تجد سورية التي هيمنت دائماً على الفضاء الميتافيزيقي طريق خلاصها إلى جانب روسيا الخالدة وإمبراطورية السماء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن