قيلَ يوماً إن السلام هو أن تمتنعَ عن محاربةِ من يريد السلام، تبدو هذهِ المقولة عقلانية لكن وككل العبارات هناك من يستنسخ منها كل ما يوافق وجهةَ نظرهِ أو تطلعاتهِ التي تنتقل بنا من سياقِ السلام إلى أحضان الاستسلام، كمن يقول: إن «صناعةَ السلام هي أصعب من الانتصار في الحرب»، لنضيعَ كشعوبٍ عربية في هذا الشرقِ البائس بينَ الحرب والسلام، فيجدون لنا طوقَ نجاةٍ ألبسونا إياه لننسى ما نعيشهُ من انكساراتٍ عبرَ ابتداعِ مصطلحٍ جديد اسمه «التطبيع».
مبدئياً دعونا نتفق بأن حرب المصطلحات لا يمكن لها أن تنتهي إلا بانتهاءِ أسباب ظهورها في شرقنا البائس شكّل وجود الكيان الصهيوني في قلبِ هذا الشرق مادة دسمة لارتفاعِ منسوب المصطلحات التي يحاول كل طرف جذبها نحوه، فمثلاً هناك مصطلح «محور المقاومة» وهو مصطلح يشمل على أرض الواقع دولة المقاومة سورية ومن يتوافق معها ببندقية النضال ضد الكيان الإسرائيلي.
على الجهة المقابلة هناك من يسمونه «رجلَ السلام» ولا نعرف حقاً إن كان قد سُمي كذلك لأنه إخفاق في الحرب، فضاع بين الحرب والاستسلام باتجاهِ السلام.
أما مصطلح «التطبيع» فهو بالمناسبة مصطلح شملَ أول ما شمل الدول العربية خارج منظومة دول المواجهة، باعتبارها لم تكن في حالةِ حربٍ مباشرة مع الكيان الصهيوني، فهي نظرياً حسب ما أقنعوها بأنها ليست بحاجةٍ لاتفاقِ سلام على طريقةِ مصر الساداتية، بل إلى اتفاقات تطبيع للعلاقات، فكانت كل من المغرب وقطر أول من حمل رايتها وروجوا لها، وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض المغالطات التي تميز بين التطبيع الرسمي والتطبيع الشعبي، لأن هناك من يذهب أبعد من ذلك ليحدثنا عن إخفاق التطبيع الشعبي، لكن مهلاً الاتفاقيات موجودة فلماذا لم يُفشلها الشعب؟
بدأت السبحة تتساقط من دون توقف حتى وصلت اليوم إلى المحطة الأهم المملكة العربية السعودية فكيف ذلك؟
لم يعد الحديث عن اقترابِ توقيع اتفاق تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني حديثاً في الخفاء ولا حتى حديثاً عن المستقبل البعيد، بل من الواضح أن الاتفاق تجاوزَ مرحلةَ اللمساتِ الأخيرة التي تنتظر لحظات التوقيع لا أكثر، وهو ما قاله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ما يعني أن الحديث اليوم بات فعلياً عن مستقبل المنطقة ما بعدَ توقيع الاتفاق، الإعلام الغربي بدأ فعلياً يتغنى باقتراب الحصول على هذا الاتفاق مستذكراً أن من تبقى من دولٍ وازنة رافضة للتطبيع هي سورية، التي وحسب هذا الإعلام «ستكون جاهزة للتوقيع عشية سقوط النظام»، والجزائر والعراق اللتان ليسَ لهما تأثير مباشر على الصراع العربي- الإسرائيلي، بل يمكننا القول إن التغني بالاتفاق القادم جاءَ على طريقةِ وكأن هذا الاتفاق سيبدل وجهَ الشرق الأوسط، فهل هي مبالغة؟ أم إن هذا الاتفاق قادر فعلياً على الانطلاقِ نحو شرقٍ جديد أو شرقٍ متوازنٍ بلا حروب؟
مبدئياً دعونا نتفق بأن هذا الشرق استهلكَ كل قدراتهِ على تحملِّ الحروب والفوضى، وما دفعه أبناء هذا الشرق من فاتورةٍ للدماء والتهجير والتفقير لم يحدث في أي منطقة من العالم، وكل من ينظر إلى هذه المعاناة من باب التنظير أو التخوين لمن يبوح بمعاناتهِ، هو حكماً شخص منفصل عن الواقع، لكن بالوقت ذاته علينا أن نتفق بأن ما من حدثٍ قادر على اختصار تناقضاتِ هذا الشرق لأن كل دولة بالنهاية تمثل نفسها، بالتأكيد قد نتفهم التهليل الغربي للاتفاق إيماناً منا بالمكانة العالية التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية، وكل من ينكر هذه المكانة هو شخص يتحدث بالعواطف لا بالوقائع، لكن حتى هذه المكانة إن لم يتم استثمارها في إطار الحلول الشاملة فهي لن تتعدى بتأثيراتها المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ولكي تكون القصة متوازنة دعونا نأخذ مثالين ببُعدين جغرافيين:
أولاً: عندما تم توقيع الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة فإن هذا الاتفاق لم ينجح أبداً بإحداث أي خروقات على المستوى الإقليمي رغم ما عاشه من «تطبيل» عن انتصار هذا الطرف أو ذاك ولم ينجح بفرض الخيارات التطبيعية المباشرة وغير المباشرة بين قوى المقاومة الحقيقية والكيان الصهيوني، رغم كل ما حُكي عن قدرة هذا الاتفاق على تبديل الكثير من معطيات الفعل المقاوم، لكنه أخفق لدرجة أن الاتفاق نفسه لم يصمد!
ثانياً: لم تنجح اتفاقات التطبيع السابقة حتى بين الفلسطينيين أنفسهم والكيان الصهيوني بفرضِ تغييرٍ في هذا الشرق، فكيف لاتفاق بين دول هذا الشرق والكيان أن ينجح بذلك؟
هذا السؤال ربما أجابت عنه بعض وسائل الإعلام الأميركية التي تروج للاتفاق على قاعدةِ القوة المالية والاقتصادية والإعلامية التي تتمتع بها المملكة في ظل الغياب القسري لسورية والاعتزال المصري شبه الطوعي، تحديداً بعد سقوط نظام محمد حسني مبارك، لكن حتى هذه المقاربة يبدو فيها الكثير من المغالطات التي تقع فيها وسائل الإعلام تلك والمقاربة هنا بسيطة: ألم تكن مصر عشية توقيع اتفاق كامب ديفيد المشؤوم تتمتع بالقوة والنفوذ ذاتهما، وأين أصبحت منذ توقيع الاتفاق حتى اليوم؟
هذه المقاربة ليست أبداً للتقليل من مكانة مصر، التي نحب ونحترم، ولا للتقليل كذلك من مكانة المملكة التي نحب ونحترم، لكننا نتحدث بواقعية افتقدها بعض الإعلام المروج للاتفاق، وكمثالٍ بسيط فإن هذا الإعلام نفسه يتحدث عن شروط فرضها الأمير محمد بن سلمان لإكمال الاتفاق أولها: السعي لتوقيع اتفاق دفاع مشترك مع الولايات المتحدة يضمن أمن المملكة لعقود قادمة، إذاً كيف يمكن الحديث عن المكانة والدور لدولة تطلب الحماية؟ هذا الترويج يبدو فيه الكثير من المغالطات التي قد تسيء لخطاب المملكة نفسها، أكثر مما يخدمها، تماماً كالترويج لفكرة أن الاتفاق يجب أن يضمن حق المملكة بامتلاك التقنيات النووية انطلاقاً من مبدأ التوازن مع إيران! لكن لماذا يتم التركيز على إيران التي باتت تتمتع بعلاقات أكثر من ممتازة مع المملكة العربية السعودية؟ أليس من الممكن أن يكون امتلاك هذه التقنيات هو لإحداث التوازن مع الكيان نفسه؟
ختاماً نصل إلى الفكرة الأهم وهي الحديث عن أن المملكة لن توقع إلا بشرط الحصول على ضمانات لإقامة دولة فلسطينية بحدود عام 1967 عاصمتها القدس الشرقية ووقف الاستيطان، لكن في الواقع من يروِّج لتفصيل كهذا يجهل تماماً أن اتفاقيات أوسلو الموقعة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني نفسها فشلت بعدَ ثلاثين عاماً من توقيعها بالحصول على ضمانات كهذه، فكيف لنا أن نرمي على عاتق المملكة الحصول على ضمانات كهذه؟ هذا الكلام هو نوع من النوم في العسل لا أكثر ولا أقل، لأن فكرة الضمانات بإقامة الدولة الفلسطينية سقطت منذ حصول جريمة «فصل المسارات» في مفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني، يومها كان الجانب السوري يعتبر فصل المسارات جريمة لا تقل عن جريمة «كامب ديفيد»، لكن ما حدث حدث والعودة إلى الماضي لا يفيدنا اليوم إلا من خلال التعلم بعدمِ تكرار الأخطاء، فما هي حدود الاتفاق السعودي- الإسرائيلي إن تمت؟
أن نكون مع أو ضد التطبيع، مع أو ضد السلام شيء، وأن نتدخل بشؤون الدول الأخرى شيء آخر، من حق كل دولة الاتجاه نحو الخيار الذي تراه أنسب لبلدها وشعبها، فهناك من وضع يده يوماً بيد الأميركي عندما شعر بأن مصلحته تذهب بهذا الاتجاه، لكن الفكرة من تناول الاتفاق هي فقط للرد على من يبالغون بالتفاؤلِ تجاهه، هذا الاتفاق لن يتعدى حدود المملكة العربية السعودية وإسرائيل ما لم يكن في إطار حل كامل وشامل، عندها فقط تعالوا نفكر بالازدهار والسلام، عدا عن ذلك، فإن كل ما يجري يبقى خيارات سياسية لدولٍ مستقلة لا نملك أن نعطيها درساً في الخيارات.