توتر جديد في الشرق.. لماذا لا تكون لحظة الـ «31 من آب 2021» الأفغانية في الذاكرة
| عبد المنعم علي عيسى
لم يكد يمضي أسبوعان على انقضاء «الجولة الأولى» من التصعيد الذي شهدته مناطق الشرق السوري أواخر شهر آب المنصرم، ما بين فصائل تمثل العشائر العربية وبين ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، ويوم واحد على إعلان متزعم هذه الأخيرة، مظلوم عبدي، الذي قال يوم الأحد الـ 24 من أيلول، أن «الأوضاع باتت مستقرة الآن في دير الزور»، حتى اندلعت «الجولة الثانية» التي وإن اقتصرت مدتها على يومين بفعل عوامل عدة من بينها اختلال التوازن القائم بين الطرفين ثم الإسناد الذي راحت تقدمه قوات «التحالف الدولي» الذي أمد «حليفه» بمسيرات راحت تقصف بلدة «ذيبان» ومحيطها، فيما تشير المقاطع التي نشرها ناشطون إلى وقوع ضحايا مدنيين، من دون أن تستطيع تلك المقاطع رصد عديدهم بفعل الطوق الأمني الذي ضرب حول البلدة التي باتت ترمز لتمرد العشائر العربية في مواجهة التسلط الذي تمارسه قوات «قسد» المدعومة أميركياً.
فجر الإثنين الـ 25 من أيلول أعلن شيخ قبيلة العكيدات ابراهيم الهفل في بيان له عن «بدء هجوم لجيش العشائر على مواقع وقوات قسد»، حيث أشارت التقارير الميدانية إلى أن ذلك الهجوم تركز على بلدة «ذيبان» التي استطاعت قوات العشائر السيطرة عليها قبيل أن تستطيع «قسد» من جديد استعادة السيطرة على البلدة بعد استقدام تعزيزات ضخمة إضافة إلى الدور الإسنادي الذي راحت «قوات التحالف» تقدمه لهذه الأخيرة، في محاولة بدا أن القيمون عليها يدركون حقيقة أن محاصرة النار في بدايتها أمر من الممكن له أن يعطي نتائج أفضل بما لا يقاس من نظير له يقول بتركها حتى تتخذ حدودها التي تظهر مكنوناتها، وقدراتها، الداخلية.
في لحظ «الجولة الثانية» ومؤشراتها يمكن القول إن هذه الأخيرة كانت أكثر تبلوراً في طبيعتها وما ترمي إليه على الرغم من قصر مدتها قياساً بالأولى للاعتبارات سابقة الذكر، فالبيان الصادر عن المكتب الإعلامي لـ«قوات العشائر العربية» ذكر أن «ما حدث في بلدة ذيبان هو رد فعل طبيعي من أبناء القبائل العربية على جرائم «قسد» في المنطقة»، قبيل أن يضيف: إن «العشائر العربية تعتبر قوات «قسد» قوات احتلال لا يمكن التعايش معها»، ثم ليختم بأنه «لن يكون هناك استقرار في دير الزور ما لم تعد الحقوق إلى أصحابها وتطرد قيادات جبال قنديل الإرهابية من دير الزور».
في أعقاب إعلان «قسد» عن انتهاء عمليتها التي أطلقت عليها اسم «تعزيز الأمن» يوم الـ 6 من أيلول المنصرم كانت هناك ثمة تعهدات جرى تقديمها في مقابل قبول العشائر لوقف إطلاق النار، إلا أن «قسد» لم تفِ بأي من تلك التعهدات، ومنها، مثلاً لم تلتزم بعودة 6500 عائلة كان قد جرى تهجيرها من الريف الشرقي لدير الزور إبان العمليات العسكرية التي احتدمت ما بين 27 آب و5 أيلول المنصرمين، ناهيك عن أن سياسة الهيمنة والتسلط عادت من جديد بطرق ووسائل أعتى من سابقاتها، الأمر الذي يمكن لمسه في إعلان «قسد» عن تأسيس مجلس أطلقت عليه اسم «مجلس هجين العسكري» كبديل عن «مجلس دير الزور» الذي كان اعتقال قائده المدعو أحمد الخبيل سبباً في اندلاع جولة الصراع الأولى، وهذا يشير إلى أن «قسد» ذهبت إلى سياسة تبديل «هيكل» بـ«هيكل» آخر بطريقة أظهرت للمحيط بأنها هي من يرسم «الهياكل» وهي من يقرر زوالها من دون أن يكون لذلك الفعل أي اعتبارات أخرى، ولذا فإنه كان من الطبيعي أن تزداد حالة الاحتقان شدة وضراوة لتتخذ الأحداث منحى تصعيدي انفجر يوم الـ 25 من أيلول.
ما تشير إليه المدة القصيرة الفاصلة بين جولتي الصراع هو أن ثمة إصرار عشائري عربي على أن تكون «جولة أيلول» ليست هي الأخيرة، بل إن كل ما جرى لا يعدو أن يكون تحضيراً لمعركة طويلة تتجهز لها العشائر التي لربما ستبحث عن عمق لوجستي لها داخل تمدداتها في العراق انطلاقاً من حسابات تدركها ولا شك فيما يخص الإسناد الذي يمكن للجيش العربي السوري تقديمه لها لاعتبارات تتعلق بالوجود الأميركي في المنطقة، ولربما كان من نافل القول إن هذا الأخير لا يمثل «المظلة» التي تحتمي بها «قسد» فحسب، بل وكذلك «المحور» الذي يوزع مراكز الثقل بين الأطراف والفصائل الداخلة في الصراع الدائر، والذي لا يمثل توقف جولته الثانية بعد يومين على اندلاعها سوى «استراحة» استدعتها مراجعات ثم حسابات فحسب.
في تقييم «المظلة» ومدى ديمومتها يمكن الجزم بأن الحسابات الأميركية تنطلق من واقعية سياسية بمعنى أن نقطة الفصل فيها تتحدد لدى موازنة كفة المكاسب مع كفة الخسائر أو تكاليف البقاء، وإذا ما ذهبنا باتجاه تفعيل «الميزان» في محاولة لتشكيل صورة مبكرة للحالة السابقة، يمكن القول إن الكفة الثانية ما انفكت تتلقى أثقالاً كافية لترجيحها لكن «قسد» تجهد لإبقاء يدها فوق الكفة الأولى لإظهار رجحانها، وفي تراجم ذاك تظهر الصورة أن المحيط بمشروع «الإدارة الذاتية» بات محاطاً من كل الجهات بقوى تعمل على تفكيكه، ففي داخل مناطق سيطرة «قسد»، بات التناقض القائم ما بين المكونات هو الحاكم لمصير ذلك المشروع ولربما هذا بحاجة إلى وقت، وعلى الضفة الشرقية، أي العراقية، تظهر الوقائع أن العداء للمشروع ليس بأقل من نظيرتها الشمالية، أي التركية، فقبل أيام زار وفد يمثل «الائتلاف السوري» إقليم شمال العراق والتقى برئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني والوفد الذي كان عضواه ممثلان عن «المجلس الوطني الكردي» تعمد من دون شك تسريب تسجيل صوتي جاء فيه على لسان أحد أعضائه أن بارزاني قال: «إن هدف الحزب الديمقراطي الكردستاني (الحزب الذي ينتمي إليه) الآن هو الإطاحة بقوات «قسد» ونموذج الإدارة الذاتية بكل السبل والوسائل المتاحة»، وإذا ما أضفنا إلى ذلك عداء تركيا يرى صراعه مع النموذج صراع وجود، يصبح لزاماً على مانح «المظلة» التفكير في كم من الوقت يستطيع البقاء في تلك الوضعية، ثم ما هي الجدوى؟
غزت الولايات المتحدة أفغانستان خريف العام 2001 وبقيت فيه حتى الـ 31 من آب 2021، وما بين التاريخين أنفقت 83 مليار دولار على تدريب الجيش الأفغاني وفقا لبيانات أميركية رسمية، لكنها في لحظة من اللحظات رمت بكل شيء حتى بالتابعين الذين تعلقوا بدواليب الطائرات.
لماذا لا تكون لحظة الـ 31 من آب 2021 حية في الذاكرة؟!