ثقافة وفن

عالم من الألوان .. المدن الملونة… روح تتألق في المكان

| ديالا غنطوس

هل فكرت يوماً أن تستيقظ لترى حياتك بالأبيض والأسود؟؟ لا وجود لألوان تزين عالمك، ولا أزرق يغطي سماءك.. من دون تلك التعرجات اللونية المذهلة التي يتشح بها الأفق ساعة الإشراق والمغيب، حُمرة الخدود لا تعني شيئاً لصبية وقفت تتجمل على المرآة فبقيت عاجزة عن إدراك الفرق، وربطة العنق لم تزد من أناقة شاب يتحضر لموعد غرامي، إذ فاته اللون ولم يعرف كنهه، هل نستطيع العيش في عالمٍ خالٍ من الألوان حقاً؟ ولأي درجة تؤثر ألوان الطيف على حياتنا، مزاجنا، روحنا، بريق أعيننا، دقات قلوبنا وغير ذلك من تقلب الأهواء التي لابد لها أن تتبدل مع كل لون جديد يمر من أمامنا، فنحب ونحزن، نتألم ونفرح، ننطلق ونركن، لذلك تقول الدراسات النفسية وتؤكد دوماً أهمية اللون في حياتنا وقوة تأثيره على طابع الشخصية وإنجازاتنا الحياتية، بل زد على ذلك قدرة اللون على تحديد شخصية المرء بدقة عالية، فأي لون أنت يا هذا؟

وبناءً على هذا الأثر القوي الذي تفرضه الألوان على سلوك البشر، ظهرت على مرِّ التاريخ مدنٌ عدة كانت أشبه بعجائبٍ معمارية وتحفٍ فنية صورها الإنسان بما تحويه من ألوان طليت بها مبانيها لتبعث بالبهجة والراحة في قلوب سكانها وزوارها على حد سواء، وبالتأكيد فإن لكل مدينة طابعها الخاص الذي يعكس مزاج قاطنيها، فكان لبعضها لون موحَّد اكتست به جميع المباني والبيوت، وأرشح هنا أمثلة من حالة فريدة في عالمنا العربي بألوان مدنها المتميزة وهي مملكة المغرب، ففيها نجد مدينة «شفشاون» وتقع شمال المغرب والتي لقبت بغرناطة الصغيرة والمدينة الزرقاء حيث تعكس ألوانها لون السماء، تأسست المدينة التي اشتق اسمها من اللغة الأمازيغية عام 1471، وهي المدينة التراثية التي ضمت مسلمي الأندلس بعد هجرتهم من إسبانيا، فامتازت بالطابع المعماري الأندلسي، وطليت جدران جميع الدور فيها باللون الأزرق الذي اكتسبته من زرقة سمائها والشلالات التي تزين محيطها، ولم يقتصر الأمر على جدران المنازل وأبواب المحال التجارية والشوارع، بل حتى الأثاث في المنازل وأحواض الزرع وملابس السكان أصابتها عدوى اللون الأزرق الهادئ الذي يلقي بظلاله على النفسية فيريحها، وهذا ما جعلها محجاً لآلاف السياح سنوياً الذين يقصدونها للتمتع بزرقتها الممتزجة بسحر طبيعتها الخضراء وأنغام شلالاتها العذبة. تكثر الأمثلة في المغرب فهناك «مراكش» المدينة العريقة الحمراء التي تتوسط البلاد، ويعود تاريخها لعام 1062 وأسسها سلاطين «المرابطون» الذين جعلوها مركز إمبراطوريتهم التي حكموا منها أجزاء واسعة من إفريقية وإسبانيا، ولقبت مراكش بالحمراء لاختيار سكانها القدماء طلاء منازلهم وأسوار المدينة باللون المائل إلى الأحمر القرميدي، ويُعتقد أن سبب اختيارهم للون الأحمر يعود لقدرته على امتصاص الحرارة خلال صيفها الملتهب ومنح الدفء في شتائها المثلج، ولضمان استمرارية اللون الأحمر الموحد في المدينة وُجدت قوانين محلية تنص على وجوب التزام الجميع بتلوين جدرانهم بلون أكثر قرباً من القرميد قدر الإمكان، وذلك يشمل جميع طبقات المجتمع الأغنياء منهم والفقراء، ما يقلص من الفوارق الاجتماعية ويخلق تلاحماً وقرباً بينهم. والأمر ذاته يتكرر في مدينة «تطوان» التي تقع شمال المغرب وتطل على البحر المتوسط، حيث سُميت بالحمامة البيضاء بسبب اللون الأبيض الذي نجده حاضراً في كل تفاصيل المدينة فأكسبها البهجة والنقاء مزيناً جدران منازلها وأبنيتها وأسوارها، ووصل الأمر لطلاء حافلات النقل باللون الأبيض، فتبدو المدينة بذلك كلؤلؤة منيرة تتوسط الجبال الداكنة اللون التي تحيط بها.
بالابتعاد قليلاً عن عالمنا العربي، وعند إلقائنا نظرة على الضفة المقابلة من البحر المتوسط، نشاهد مدناً كسرت قيد اللون الواحد وتحررت منه، فمزجت بين ألوان الطيف بتناسق خلاب يجلب البهجة ويزيح الغمة، من أبرز تلك المدن أذكر مدينة «سانتوريني» عروس اليونان ذات الرداء الناصع البياض، تقف كمنارة على الشاطئ فاردة ذراعيها لزوارها الذين يأتونها للتمتع بتمازج أضوائها المبهجة مع بيوتها ذات النمط المعماري البسيط والتي يحتضنها جمال طبيعتها، وبالنظر إلى جارتها الإيطالية «جزيرة بورانو» التي تقع شمالي مدينة البندقية، تم تشييدها بوساطة الرومان الفارين من هجوم البرابرة، وتمتاز بألوان جدران منازلها الفاقعة البراقة، التي تعود قصتها لمجموعة من الصيادين عادوا إلى بيوتهم فلم يتمكنوا من تمييزها بسبب الضباب الكثيف، فما كان منهم إلا أن طلوها بألوان شديدة البريق، ومع تعاقب الأجيال تم تطوير نظام الألوان بما يناسب كل منزل مع ما يحيط به من منازل بما يحقق انسجاماً وتناغماً بينها، وأيضاً بوجودنا في إيطاليا نرى مدينة «مانارولا» التي تعود عراقتها وتاريخها للقرن الثاني عشر، وعلى الرغم من صغر مساحتها إلا أنها تعتبر من أكثر المدن التي تحوي ألواناً في العالم، فباتت وجهة سياحية شهيرة على اعتبار أنها أشبه بلوحة فنية حيَّة يجوبها الناس مفتونين بألوانها الحميمة وسراديبها الضيقة التي اشتهر منها ممشى اسمه «درب الحب».
أثناء جولتنا في أوروبا نكتشف مدناً أخرى مثل «أوتريخت» إحدى أكبر المدن في هولندا، وتضم تحفاً عمرانية غاية في الروعة كالمتاحف والمسارح والمعارض الفنية كما الأسواق التجارية، وما يزيد من تميزها ألوان مبانيها الخلابة التي اختيرت بعناية فجعلت فيها سحراً عبقاً في كل ركن من أركانها، ويأخذنا دربنا إلى العاصمة السويدية «ستوكهولم» المكونة من 14 جزيرة تلامس بحر البلطيق، واشتهرت بقلاعها التي تعود جذورها إلى القرون الوسطى، وكجاراتها دول البلطيق تمتاز مبانيها وقصورها بهندستها المعمارية الأنيقة والفخمة بألوان مدهشة تفتن ناظريها وتأسر قلوبهم. نكمل رحلتنا ونجتاز المحيط الأطلسي فنصل إلى مدينة «سانت جون» عاصمة مقاطعة نيوفاوندلاند في كندا، وهي إحدى أقدم المدن في أميركا الشمالية حيث تبلغ من العمر 1400 عام، وساهم قِدمها بإضفاء مزيد من العراقة على هندستها المعمارية فتسحرنا أناقة شوارعها ورتابة أبنيتها المطلية بألوان مبهجة تُنسي سكانها برودة الطقس التي تلفها على مدار العام، وبالاتجاه جنوباً نحل ضيوفاً على مدينة «تشارلستون» في ولاية ساوث كارولاينا بالولايات المتحدة الأميركية، والتي اعتبرت يوماً عاصمة الجنوب الأميركي خلال الحرب الأهلية الأميركية، ونظراً للعدد الكبير من المعابد القديمة المشيدة فيها أطلق عليها لقب «المدينة المقدسة»، وتزيد أبنيتها الملونة من جمالها جمالاً حيث تتناغم الألوان ويتناسب هدوءها مع أمزجة سكانها من الطبقة النبيلة. ونختتم رحلتنا بالقارة الأميركية الجنوبية وتحديداً في مدينة «فالبارايسو» العاصمة التشريعية لتشيلي وأهم موانئها البحرية، وتشتهر بالمتاحف والكاتدرائيات التاريخية وأبنيتها المطلية بجميع تدريجات الألوان التي تراود مخيلتنا، الهادئ منها والبراق، ونظراً لقدمها وجذورها الضاربة في التاريخ تم إدراجها على قائمة التراث العالمي لليونسكو، وباتت قبلة للسياح يأتونها من مختلف أرجاء العالم.
يصعُب تحديد ما إن كانت تلك الألوان هي التي أثرت بطبائع سكان تلك المدن ووجَّهتها، أم على العكس من ذلك بأن أولئك السكان هم من دفعهم حسهم الفني وذائقتهم للصَّفات والقيم الجماليَّة لإبداعهم مدناً تشبههم وتعكس مضامينهم بلوحات مشيَّدة، فأبقوها خالدة مع تعاقب الأجيال التي خلفت صُناعها الأصليين، فكانوا خير حافظين لها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن