الأغنية السورية بين الأصالة والحداثة
| بيان شواك
لا يخفى على أحد ما يحدث للحركة الثقافية بصورة عامة وخاصة الفنية، ما جعل بعض الغوغائيين يتصدرون قائمة الغناء حتى بات بصورته الحالية، ساهم بذلك غياب أصحاب الفن الرفيع عن مواصلة البذل، وعندما عاد البعض لاستئناف العطاء، كانت الساحة قد امتلأت ضجيجاً ليصعب ملاحقة دجالي الفن والمتسولين باسمه..
ماضٍ مجيد.. وحاضرٍ فقير!!
يزخر تاريخنا الغنائي السوري بأغانٍ شدا بها فنانون كبار سحروا ألباب الأجيال بإبداعات شعرية استثنائية، مثل: فريد الأطرش، أسمهان، رفيق شكري، سهام رفقي، نجيب السراج، مها الجابري، صباح فخري، صفوان بهلوان، ميادة الحناوي وغيرهم الكثير، حتى أصبحت أغنياتهم جزءاً من تراثنا الأصيل، مثل: بالي معك بالي بالي بالي.. وحوّل يا غنّام حوّل.. وبالفلا جمّال ساري..
أما اليوم، في زمن الجلبة والتلوث الغنائي، معظمه إلا ما ندر، كثر الدخلاء على فن الغناء، وغاب الزمن الجميل و«الآذان النظيفة»، وأصبحت الساحة ملكاً لأصحاب رؤوس الأموال والثروات الطائلة، وزاد الأمر سوءاً نزوح معظم الملحنين إلى آلات الإيقاع كالأورغ والدربكة وأخواتها، وابتعادهم عن الوتريات أساس الموسيقا في ثقافتنا الشرقية والثقافة الموسيقية العالمية عموماً. فأمست للغناء الهابط شباكاً تُنسج حول مكتسباتنا الغنائية وتاريخ الأغنية السورية، ويجثم على صدورنا فارضاً نفسه، مطيحاً بذائقتنا الفنية إلى أسفل سافلين! ونحن لا نملك حيال هذا إلا التحسر، ما دام هذا النمط من الأغاني يطاردُ آذاننا بانتظام في حفلات الأفراح، وتفتح له أبواب كبرى المحطات والإذاعات لتكون تلك الأغاني ضيفاً مفروضاً في كل بيت رَغماً عن أنوفنا! حتى كاد الجيل الحديث يفقد الذوق السليم لبديع الكلم واللحن. ومن هنا يأتي التساؤل بكل مرارةٍ؛ لماذا فشلنا في التصدي للأغاني الهابطة؟! هل باتت شاشات الفن والإذاعات الخاصة سوقاً تجارياً لكسب كمّ المتابعين بدلاً من حمل رسالة ترتقي بالغناء العربي وتعيده إلى مجده!
دمشق القديمة لم تنج من الضجيج!
الأغنية اليوم وجه آخر للتدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي دكّ البلاد، فالأغنية ليست بعيدة عن مجريات الواقع إن لم تكن الوجه الحقيقي له. لذا لم يعد غريباً أن تشهد مقاهي دمشق القديمة حالة صخب الأغاني الهابطة، فبدل أن تفوح من المقاهي التي اتخذت البيوت الدمشقية القديمة مُقاماً لها، رائحة الياسمين والنارنج مع صوتِ السيدة فيروز صباحاً، وتغلق أبوابها على صوت كوكب الشرق ليلاً، باتت تلك الأماكن مرتعاً للجلبة وصخب البرامج الفنية الساهرة التي تجذب المراهقين والشباب، وما يزيد الطين بِلة اعتماد أصحاب المحال على مؤدين غير موهوبين وذلك لتدني أجورهم، وتبقى الجلبة وخبط الأقدام في الدبكة لا يعرفان حرمة الليل ولا قدسية المكان..
حتى الأغنية الوطنية لم تسلمْ!
عادة ما يبزغ فجر سورية عبر إذاعتها الرسمية بصوت أمل عرفة وفهد يكن «صباح الخير يا وطناً يسير بمجده العالي إلى الأعلى»، أما ابن مدينة تلكلخ «معن دندشي» فاستطاع بكلمات أغنيته «يا طير سلم لي ع سورية» أن يجوب بسامعيها كل بقعة في سورية، وصدحت السيدة «فيروز» تتغنى بمجد سورية «شآم ما المجد أنت المجد لمْ يغبِ» بصوتٍ مخملي وكلماتٍ تدغدغ الوسن والفؤاد لا يمكن لذاكرة التاريخ نسيانهما، وفي النصر كانت بنت بيروت «نجاح سلام» حاضرة بقوة تغني «سورية يا حبيبتي». كل الأمثلة الواردة أعلاه.. كان يا ما كان! أما حديثاً، فقدم الفنانون السوريون أعمالاً وطنية كثيرة متفاوتة في المستوى، والبعض حاول تقديم الأغنية الوطنية كوسيلةٍ للانتشار الجماهيري، ووقع المطرب «غير المعروف» في أخطاء جسيمة، ربما دون أن يدري، فلا يميز بينَ قوة الصوت والصراخ، والرسالة المرجوة من الفيديو كليب واستعراض العضلات، وبلاغة المعنى وركوب الموجة! والبعض الآخر أساء للوطن أكثر مما يجله ذاك الذي نراه يغني في النوادي الليلة هو عينه من يغني للوطن!! ألهذا الحد باتت الساحة الفنية فقيرة بتقديم نموذج حديث متفرد رزين يرتقي لمكانة «وطن» ولاسم «سورية»! نأمل أن يكون المشهد أفضل في أغاني النصر قريباً..
نقابة الفنانين..
لا للعدالة مكانٌ بين أبنائها!
مع ذكر اسم «نقابة الفنانين» أمام مسألة واقع الأغنية السورية الحديثة يتراود إلى أذهاننا سؤال جدير بالطرح، أين دور نقابة الفنانين في وضع المعايير المناسبة بانتقاء المغنين واللحن والكلمات؟! ألا يستحق الغناء حصة من الاهتمام الذي يحظى به فن التمثيل وسوق الدراما؟! لماذا ترضى النقابة بموقف المتفرج إزاء ما حدث وما يحدث في الساحة، بدل النضال في سبيل انتزاع حقها بالإشراف على مجمل النشاطات الغنائية في البلاد، بما فيها المقاهي، والنوادي، والأستوديو، وشركات الإنتاج الفني، لضبط جودة الأعمال ووضع التشريعات اللازمة، وتوضيح مسارٍ حازم ومحدد تسير برؤاه الأشعار والألحان والأصوات، والتفات جميع أعضاء النقابة جدياً لهذا الدور الرقابيّ المهم بدلاً من الاستكانة.
«أورنينا» جدةُ فننا
تدل اللقى الأثرية والمعطيات العلمية أن سورية محطة بارزة في التطور الموسيقي وانتشاره عالمياً، فعلى الأرض السورية اكتشف في معبد عشتار في مملكة ماري الواقعة جنوب مدينة دير الزور أقدم مشهد لفرقة موسيقية، وذكر أرشيف المملكة أنها عرفت الآلات الموسيقية والوترية والإيقاعية والهوائية وأهمها «القيثارة»، ليكون لقبُ «أورنينا» عازفة معبد عشتار، رمز الشعر الغنائي والموسيقا وملهمه للعالم بأسره قبل نحو 5500 سنة من الآن.
سورية بلد الحضارة والفن، أبناؤها أبناء الخير والجمال، أبناء الحياة، لا عذر أمامهم من نضوب الفن وإبداع نماذج حديثة متفردة، آن الأوان للحد من ظاهرة التدهور المريع والتشويه المتعمد لتاريخ الأغنية السورية، فالغناء وجدان الأمة ومرآة الشعوب، لا بدّ لنا من مواجهة الفن المزيف وتقديم أعمال هادفة ترتقي بالذوق العام، وبالتأكيد إن الحُكم على اللحن أو صوت المغني أمر نسبي، يأتي تقييمه من عامة المستمعين، فالتردي لم يطل الأغنية فحسب وإنما الذوق العام أيضاً، وهذه قضية شائكة تتداخل مع أبعاد متعددة ومتباينة، فتربية الذوق الفني السليم عملية تراكمية تلعب فيها أسس التربية والمناهج التعليمية والإعلام أدواراً رئيسة، وتطور الذوق الفني عملية متكاملة ليست وليدة المصادفة.