قضايا وآراء

زالت جمهورية «آرتساخ» بخطأ الحسابات

| عبد المنعم علي عيسى

في أعقاب عملية عسكرية قصيرة وحاسمة استطاعت القوات الأذربيجانية من خلالها دك دفاعات إقليم «ناغورني قره باغ» والسيطرة تماماً على أراضيه التي تبلغ مساحتها أكثر قليلاً من ثلاثة آلاف كيلو متر مربع، بصورة تثير العديد من الأسئلة، وأعلن رئيس «جمهورية آرتساخ»، وهي التسمية التي عرف بها الإقليم تاريخياً، صامويل شهرمانيان يوم الخميس الماضي أن «جمهورية آرتساخ ستزول من الوجود بعدما منيت بهزيمة عسكرية أمام أذربيجان دفعت بأكثر من نصف سكانها للفرار باتجاه الوطن الأم أرمينيا»، وأضاف شهرمانيان في مرسوم كان قد أصدره في اليوم ذاته أن «جميع مؤسسات الدولة القائمة سوف تحل بحلول نهاية العام الجاري»، كما أكد المرسوم آنف الذكر على أن «آرتساخ ستزول من الوجود اعتباراً من الأول من شهر كانون الثاني 2024».

إن الشرارة الأولى التي يمكن رصدها في سياق ترهل الإمبراطورية السوفييتية وإمكان تفككها، كانت قد اندلعت من «ناغورني قره باغ» العام 1988 الأمر الذي كان يشير في حينها أيضاً إلى أن «بؤرة» التوتر العرقي – الديني قد استكملت شروط نشاطها وأنها باتت بحالة محفزة تسمح بإخراج مكنوناتها، فيما شارعها وقواه غير مدركين لحقيقة أن الفعل، أي خروج التوتر للعلن، بمجرد وقوعه سيصبح رهينة للقوى الخارجية التي لن تدخر جهداً للاستثمار فيه، وأن النتائج سوف تكون بالدرجة الأولى رهينة التوازنات القائمة بين تلك القوى ببعديها الإقليمي والدولي.

عندما تفكك الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1991 أعلنت جمهورياته استقلالها، ومنها جمهوريتا أذربيجان وأرمينيا، وفي حينها وقعت جغرافية الإقليم، أي ناغورني قره باغ، الذي يقطنه أغلبية ساحقة من الأرمن، داخل الأراضي الأذربيجانية المعترف بها دولياً، الأمر الذي جعل منه بؤرة توتر راحت تنشط، وتخبو، على وقع السخونتين الإقليمية والدولية، وفي هذا السياق سيشهد العام 1994 جولة الصراع الأولى التي استطاعت القوات الأرمنية، المدعومة روسياً آنذاك، السيطرة تماماً على الإقليم بل وزادت عليها بالسيطرة على بعض الأراضي الأذربيجانية الواقعة في محيطها، ثم تجدد الصراع عام 2020 في ظل مناخات إقليمية مختلفة جذرياً، حيث ستستطيع القوات الأذربيجانية استعادة جزء كبير من الأراضي التي خسرتها في العام 1994، وما يمكن استخلاصه من جولتي الصراع والنتائج التي آلتا إليها أن المناخات الإقليمية والدولية المحيطة بأي صراع غالباً ما تكون شديدة التأثير فيه حتى ليمكن القول إن تلك المناخات تصبح في الغالب أيضاً، حاكمة للنتائج التي سيؤول إليها، وفي ذاك كان الدعم الروسي جولة الصراع الأولى داعياً لـ«انتصار» أرمني، في حال شكل غيابه 2020 ثم 2023، مقدمة لهزيمة جزئية شهدها العام الأول من هذين الأخيرين ولهزيمة ساحقة شهدها العام الأخير منهما.

يمكن القول إن «زوال» جمهورية «آرتساخ»، كما أعلنه زعيم الإقليم الذي كان يحظى بحكم ذاتي موسع على مدى العقود الثلاثة الماضية، كان قد حدث بفعل عاملين أساسيين اثنين، أولاهما تلاقي المصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية والدولية عند ذلك الفعل، وثانيهما خطأ الحسابات السياسية لحكومة أرمينيا التي شكلت «الرحم» الذي يستمد منه الإقليم «نسغه» الكفيل بدوام استمراره.

في العامل الأول كانت الحسابات الروسية تسعى إلى توثيق تحالفاتها مع تركيا ومن ورائها أذربيجان في مرحلة بلغ الصراع الروسي- الغربي عبر أوكرانيا فيها أشده، ولربما كان القرار البريطاني الأخير القاضي بعزم لندن على إرسال قوات إلى أوكرانيا يهدد بولوج الصراع مرحلة العالمية بشكل مباشر لينفض عن غباره مرحلة «اللا مباشر» التي تستر وراءها خلال الشهور العشرين الماضية، وفي العامل الثاني، كانت حسابات رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان السياسية تراكم الخطأ تلو الآخر حتى كان آخرها تصديق البرلمان الأرميني على «ميثاق روما» الذي انبثقت عنه «محكمة الجنايات الدولية» التي سبق لها وأن أصدرت شهر آذار المنصرم مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي إلى جانب مفوضة حقوق الأطفال الروسية ماريا لفوفابيلوفا، الأمر الذي قرأته موسكو في ظل هذه الظروف انحيازاً جديداً لباشينيان باتجاه الغرب فاق سابقاته، وعلى الرغم من أن الأخير كان قد عرض توقيع اتفاقية ثنائية لتنظيم العلاقة بين البلدين ما بعد إعلان انضمام بلاده لـ«محكمة الجنايات الدولية»، إلا أن موسكو ارتأت في الأمر فعلاً التفافياً لا طائل منه ما دفعها إلى رفض العرض أولاً ثم القرار بتدفيع باشينيان «الفاتورة» التي باتت مستحقة الدفع، ولربما كانت من مستحقاتها إسقاط حكومة باشينيان الذي تبدى أمراً ممكناً في أعقاب التظاهرات الغاضبة التي شهدتها يريفان، عاصمة أرمينيا، يوم الخميس الماضي بعد ساعات من الإعلان عن زوال «آرتساخ» والتي اتهم المتظاهرون فيها حكومة باشينيان بـ«الخيانة»، مطالبين إياه بـ«الرحيل»، ومن المرجح أن الفعل لن يقف عند هذه الحدود بل قد يتعداها لاحقاً لاعتبارات داخلية أخرى.

ما يقوله «درس آرتساخ» هو حقيقة مفادها أن الخرائط الملونة لا تحمي كيانات أو دولاً، وما يحمي هذه الأخيرة فقط هو السياسات التي تأخذ بعين الاعتبار حقائق الجغرافيا والتاريخ، لكنها تلحظ في الآن ذاته رؤيا ومصالح الدول الفاعلة تلك التي ترسم سياساتها معادلات «البقاء» أو «الزوال».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن